يونس جنوحي
ارتفاع الحرارة ليس مؤشرا فقط على دخول فصل الصيف، وإنما أيضا على اقتراب «محنة» اختيار آفاق ما بعد البكالوريا لمئات آلاف الأسر المغربية.
منذ أن صار بإمكان المغاربة اجتياز امتحانات البكالوريا، والاختيارات نحو التعليم العالي واضحة. ولا يمكن طبعا أن نقارن اختيارات أربعينيات القرن الماضي مع اختيارات اليوم. لكن على الأقل، في فترة الحماية، كان أغلب الحاصلين على البكالوريا إما يركبون الباخرة في اتجاه مارسيليا ومنها برّا إلى باريس، وإما يتجهون صوب تطوان، المنطقة الخليفية وقتها، ويرحلون منها صوب الشرق لاستكمال الدراسات العليا إما في مصر، سوريا أو العراق. فيما يختار فريق ثالث البقاء في المغرب، وأغلبهم يُدمجون فورا في الوظيفة العمومية.
في الزمن الذي كان يتوجه فيه الحاصلون المغاربة على البكالوريا إلى الشرق لاستكمال الدراسة الجامعية، كان الأمر برمته يشبه الانخراط في حزب سري لا تعترف به السلطات. إبراهيم الوزاني مثلا أحد أشهر الطلبة المغاربة الذين درسوا في الشرق، وقصة سفره للدراسة تشبه كثيرا قصص الأفلام المخابراتية. فقد كان عليه أن يختبئ لأيام عن الأنظار، ويرحل سرا، ويحرص على ألا يراسل أحدا في الأيام الأولى لوصوله، ويبحث أولا عمن يتكلف بترتيب أموره الإدارية، قبل أن يُعلن في الأخير أنه بدأ مرحلة الدراسة الجامعية.
وحتى بعد أن عاد جل الطلبة المغاربة الذين درسوا خارج المغرب، خصوصا قبل 1953، وجدوا فعلا خصاصا مهولا في التخصصات التي درسوها في الخارج، خصوصا الطب والهندسة. لكنهم كانوا أمام مشكلة عويصة، سببها شروط الإدماج في الوزارات والتخصصات التي يشرف عليها الفرنسيون في المغرب. أما الذين درسوا في الشرق، فأغلبهم اختاروا المهن الحرة، خصوصا المحاماة، واستقر أغلبهم في المنطقة الشمالية. ومع مجيء الاستقلال، خُففت القيود قليلا، وصار «العائدون» إلى المغرب يُستقبلون بالأحضان ويُدمجون فورا في الوظيفة العمومية، وهو ما يفسر عودة أغلبهم إلى البلاد بدل البقاء في فرنسا.
أما اليوم فالأمر مختلف تماما. هناك حزب من العائلات المغربية التي ترغب في أن يحصل أبناؤها فقط على شهادة مستوى سنة البكالوريا، لكي يتكلفوا بتدبر عمل متواضع في إدارة من الإدارات، أو الشركات التي تساوي فيها رخصة السياقة قيمة عشر شهادات بكالوريا مجتمعة.
وفئة أخرى تفكر في مصاريف الدراسة العليا أكثر من اختيارات ما بعد الحصول على الشهادة.
وككل سنة، لا بد أن تُعدل المعاهد والمدارس العليا من شروط القَبول. إما أن تُخفض المعدل قليلا، أو ترفعه قليلا لإقصاء الآلاف من ولوج تخصصات مثل الطب والهندسة.
أما الذين يفكرون في استكمال الدراسة في الخارج، فيتعين عليهم مراجعة المواقع الإلكترونية لمختلف السفارات في المغرب، والاطلاع على الشروط الجديدة لتأشيرة الدراسة. وحتى بعد حصولهم على موافقة رسمية من المعاهد العليا والجامعات خارج المغرب، يتعين عليهم أن يحققوا لائحة طويلة من الشروط للحصول على التأشيرة لمغادرة مطار محمد الخامس.
يحدث كل هذا في وقت لم تتضح فيه بعدُ معالم مصير الطلبة الذين انقطعوا عن الدراسة، بسبب الحرب الأوكرانية، وما رافق وضعهم من نقاش داخل المغرب، بخصوص أحقيتهم في مواصلة الدراسة في كليات الطب المغربية، ورفض طلبتها الجلوس في طاولة درس واحدة مع العائدين من الحرب. حتى أن هناك منهم من فضلوا البداية من جديد في المغرب، وطي مرحلة أوكرانيا بحربها وذكرياتها ودروسها أيضا.
هؤلاء جميعا يشكلون حزبا عريضا، بمختلف تخصصاتهم وشهاداتهم، وهو حزب المغلوبين فعلا على أمرهم. ووضعهم يُسائل المسؤولين المغاربة عن التعليم العالي.
وحتى الذين يُنهون الدراسات العليا في المغرب، ويتفوقون في مختلف التخصصات، بعد أن صُرفت عليهم ميزانيات لتأهيل التعليم العالي والبحث العلمي، أصبحوا يفكرون في الهجرة إلى وجهات محددة، خصوصا إلى كندا، بحثا عن حياة أخرى وأفق أرحب.