شوف تشوف

الرأي

حرب المائة عام في الشرق الأوسط (2 ـ 2) 

بقلم: خالص جلبي 

يستعرض موسكوفيتش تاريخ المنطقة، ويورد أن حاجة إسرائيل إلى الأمن كانت مبررة في ضوء عدم اعتراف جيرانها بحقها في البقاء، ولكن هذا تعرض لانعطاف تاريخي مع زيارة السادات إلى القدس في نونبر من عام 1977م، حيث لحقتها بعد عام اتفاقية (كامب ديفيد) التي نصت على حق الفلسطينيين بالحكم الذاتي، لمدة خمس سنوات، يخرجون في نهايته بفرصة تقرير مصيرهم السياسي، أو بالاندماج الكونفدرالي مع الأردن. ولكن ضاعت هذه الفرصة حتى جاءت الانتفاضة الأولى بعد عشر سنوات، التي تصدت لها إسرائيل بمنتهى القسوة. حتى إذا خرج الأمر عن التطويق، جاءت تسوية أوسلو ومؤتمر مدريد عام 1991 م، حيث شعر الطرفان أنه لابد من ولادة حلول وسط، بأشد من آلام المخاض. وكان أشدها إيلاما اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل في حدود ما قبل 1967م، وكان هذا معناه ثلاثة أمور: الاكتفاء بأقل من ربع فلسطين التي سكن فيها أجدادهم أيام الانتداب البريطاني، وحق إسرائيل في الوجود، وأن طريق العنف مسدود، ولا بد من السير في طريق الحل السلمي.
يقول (موسكوفيتش) إن مقتل إسحاق رابين كان نكسة خطيرة في هذا المسلسل، ويمكن تشبيه ما قام به مع شمعون بيريز، بعمل كونراد أديناور الألماني وشارل دوغول الفرنسي، عندما سارا بشعبيهما في طريق وعر من أجل توفير السلام للقارة الأوروبية، فوقع الطرفان عام 1963 في قصر الإليزي، على الصلح التاريخي المشهور بين الشعبين الفرنسي والألماني. ولكن ما حصل بعد ذلك في فلسطين كان نكسة في الطريق، كما يفعل القطار وهو يمشي في الاتجاه المعاكس تماما، حيث تم تقطيع الضفة بممرات وشوارع، للوصل بين المستوطنات، مما حولها إلى أعشاش أو سجادة مرقطة، غير متماسكة من الأراضي، بحيث قطع الطريق عليها أن تتحول إلى دولة فلسطينية متماسكة في المستقبل، ولم تقترب إسرائيل من الحل إلا بعدا عنه. وفي هذا الصدد يروي نكتة قديمة عن مصير إسرائيل، أنها تشبه قصة اليهوديين اللذين ركبا قطارا، وبمجرد وصول القطار إلى المحطة الأولى أصدر أحد الراكبين تنهدا عميقا؛ فلما وصل القطار إلى المحطة الثانية تنهد الرجل على نحو أعلى صوتا وظهر عدم الارتياح في محياه، فلما دخل القطار المحطة الثالثة انتصب الرجل واقفا وقد علاه الرعب هذه المرة. سأله الرجل الآخر: «إن أمرك عجيب، فأنت تزداد تنهدا وقلقا وحيرة مع كل محطة نصل إليها؟»، أجابه الرجل: «لو عرفت خبري لعذرتني! فأنا اكتشف نفسي مع كل محطة أن القطار يمشي في الاتجاه المعاكس». تعجب الرجل الآخر أكثر، وقال: «ويحك ولمَ لمْ تنزل من المحطة الأولى وتستقل القطار في الاتجاه الآخر؟»، قال الرجل الملتاع: «لقد قطعت تذكرتي ومقعدي مريح، وما يدريني متى يأتي القطار وهل سيأتي القطار؟» وهكذا فإن صاحبنا تابع رحلته في الاتجاه المعاكس. ويعلق موسكوفيتش على هذه النكتة بقوله: «وهذا ما يحصل لنا الآن. إننا عاجزون عن الفهم، وقد قررنا منذ فترة طويلة أن نمشي في الاتجاه الغلط، ولهذا فليس غريبا أن ندفع الثمن الباهظ، وما ينقصنا هو الشجاعة وسرعة اتخاذ القرار، للنزول من هذا القطار الذي يمشي باتجاه الهاوية لنبدل اتجاهنا». ويستشهد (موسكوفيتش) بسؤال مؤلم ونابض كان يواجه مهندس الدولة الإسرائيلية الأول (بن غوريون) أن الحرب ضد العرب حسمت، ولكن الدول العربية لم تعترف بإسرائيل، وإسرائيل لم تخرج من دائرة الخطر، ولذا كان يردد سؤالا بدون ملل: «إلى أين ستمضي الأمور؟». وهو السؤال نفسه الذي طرحه المغربي اليهودي، فانونو، الذي هرب أسرار السلاح النووي للصحافة البريطانية فكلف فكلفه ذلك الحبس 18 سنة. قال يومها: «بهذا السلاح حصلت إسرائيل على الأمن، ولكن ليس السلام».
يتابع موسكوفيتش تحليله؛ بأن ما حصل بعد هذا لم يزد الأمن الإسرائيلي إلا ضعفا، بتطوير نظام الصواريخ والقنابل الذرية والأسلحة البيولوجية. ويرى المثقفون الإسرائيليون سحبا قاتمة تظلل الأفق، وتهدد مصير إسرائيل، من نمو الأصولية الإسلامية من ظلمات الإحباط العربي. وحسب عالم النفس السلوكي (سكينر)، فإن العواطف البشرية في حالة ديناميكية لا تستقر، تشبه أمواج البحر الهادرة، الكل يؤثر في الكل، وعاطفة تقود إلى عاطفة وسلوك غير متوقع، فالإحباط يولد العدوانية، والعدوانية مرجل لا أحد يتوقع بما يقذف إلا مثل بركان إتنا وفيزوف ودمار هيروكولانيوم. ليقرر المؤرخ الإسرائيلي أن تفوق إسرائيل الهائل، يقود في النهاية إلى عدم قدرتها على الحياة. وهو بهذا يذكر بمصير دولة آشور، التي ماتت كما وصفها المؤرخ البريطاني (توينبي)، مختنقة في درع سميك من صفائح صم وسرد قدر تقديرا، تعتلي ظهر آلة حربية متطورة، عنيت بها جدا بقدر عناية الموت بها. أو كما في قصة داوود الذي قضى على جالوت بحجر من مرقاع قذفه فهوى.
يقول موسكوفيتش: لن يطول ذلك الوقت الذي سوف تملك به دول المنطقة الأسلحة الكيماوية، وإن فيروس عقلية طالبان لم ينته أمره في حرب أمريكا بأفغانستان، وإن الأنظمة العلمانية في الدول المجاورة ستقع في أيدي أولئك المتشددين مثل التفاحة الناضجة، وهو أمر رأيناه من صعود الأصولية في إيران، وحماس في غزة، ونمو الإخوان المسلمون في مصر، وسيلحق هذا أفواج الله أعلم بها من حزب التحرير وحزب الله وأحزاب تحمل ألوانا شتى من التشدد الديني. ولذا فهذا القرن سيكون قرن الظلمات على ما يبدو، يقوده متشددون من كل الأطراف.
يقول موسكوفيتش إن الحذر جيد، ولكن الإغراق فيه ينقلب إلى وصفة مشؤومة، واليوم في الكنيست بدأ التفكير بتحويل دولة إسرائيل إلى دولة ثيوقراطية يهودية. والشجعان الذين استطاعوا أن يمشوا في طريق أوسلو، لم يمتلكوا الشجاعة الكافية لتحويل العدو إلى صديق حميم. ويختم موسكوفيتش مقالته بأن الانفجار رجع مجددا ـ فكيف إذا رأى حماقة إسرائيل في شتاء 2009م وصيف 2006م؟ـ وأن الحل خارج يد الفلسطينيين والإسرائيليين، على حد سواء كما أن أمريكا متحيزة.
ليخلص بفكرة عجيبة بتصوره لطريق الخلاص، أن نموذج الوحدة الأوروبية هو باب النجاة، وأن قبول إسرائيل في السوق الأوروبية سيعدل مسار عملية السلام كله، ويفرضه على المنطقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى