فاطمة ياسين
لطالما رأى الرئيس جو بايدن أن تهديد الولايات المتحدة يتركز بدرجة كبيرة في الصين، بما لها من ثقل خارجي واسع الطيف، وبما تستثمره من أموال ضخمة، لحشد مزيد من المناصرين حول العالم، ما يوسع من مجال أمنها الاستراتيجي على حساب الولايات المتحدة. وحرص بايدن على أن يحشو خطابه الانتخابي بتعبئة جهوده نحو الصين، وهو قد باشر بالفعل الجزء الأول من خطته، واستطاع أن يحل مكان فرنسا في صفقة الغواصات النووية مع أستراليا، التي تمتلك مدى أوسع وسرعة أكبر من الغواصات ذات الوقود التقليدي، بما قد يشكل عامل ردع للصين في بحرها. ولكن ما حدث، أخيرا، كان صعود تهديد تقليدي ينافس التهديد الصيني، فقد بدأ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حشودا عسكرية ضخمة بالقرب من الحدود مع أوكرانيا، وبمحاذاة المنطقة ذات الأمن القلق في دونباس، حيث توجد مجموعات موالية للروس مستعدة لإثارة البلبلة في الشوارع لصالح بوتين، الأمر الذي قد يعطيه حجة لتحرك عسكري ما في المنطقة. لا يريد بوتين منح بايدن الفرصة لجعل الصين الجبهة المفضلة لديه، وهو يرغب أن يتشاطر مع الصين مواجهة بايدن، ويبدو أن الشوط الأول قد بدأ في أوكرانيا.
فتح بوتين هذه الجبهة بإيجاد منطقة التوتر في أوروبا، ودفع اسم أوكرانيا إلى الواجهة، والحديث عن أمنه الاستراتيجي، مستغلا قرب الحدود الروسية من هذه المنطقة المضطربة، وبدأ إطلاق التهديدات المباشرة والمبطنة بشكل شخصي أو عبر المساعدين العسكريين، أو جيش «المحللين السياسيين»، الذين بدؤوا الحديث عن أسلحة نووية تتم إعادة تموضعها، وهو أمر يمكن أن يجعل حلف شمال الأطلسي (الناتو) يرفع استعداداته إلى أقصى درجة. تبع ذلك هجوم سيبراني طاول المؤسسات الحكومية والوزارات الرسمية في أوكرانيا، كان مصدره روسيا، من دون تمويه، وكأن المقصود أن يجري اكتشاف الجهة التي قامت به، وهي رسالة من بوتين، إن ذراعه الإلكترونية طويلة وقادرة على الوصول إلى العمق الأمريكي. وكان بوتين شخصيا يكرر أن أي تعكير لأمنه الأوروبي لن يمر بسهولة، وسيتم الرد عليه بشكل سريع وحاسم. أما تهديده الأكبر فتصريحه أن أجهزته طورت صاروخا بحريا يفوق سرعة الصوت، يمكنه أن يصل إلى هدفه خلال خمس دقائق. مع وضوح هذا الهدف، وهو واشنطن، وليبدو بوتين محدِداً خياراته وليس مجرد مثير للغبار، طالب الولايات المتحدة بإخلاء أوروبا من أسلحتها النووية، والكف عن إرسال قوات غربية إلى دول حلف وارسو القديم، حتى إن كانت هذه الدول منضوية تحت حلف الناتو. يذهب بوتين بعيدا جدا في مطالبه، ويكاد يمد حدوده الاستراتيجية إلى خط ما قبل تحطم الاتحاد السوفياتي في استدعاء غير مباشر للحرب الباردة.
اكتفت إدارة بايدن بالقول إن مزيدا من التهديدات يعني مزيدا من العقوبات الاقتصادية والإلكترونية، أي أنها (الإدارة) كانت تعتقد أن كل ما يفعله بوتين مجرد تهديدات يمكن أن تتوقف بتلويح جديد بعقوبات أكبر، وهي تركز على جبهتها التي اختارت أن تقاتل عليها في أقاصي الكرة الأرضية وقرب بحر الصين، لكن انعطافا مهما حدث. والخطورة تكمن في القتال على جبهتين عريضتين وخطرتين، ومن دون أسلحة تقريبا.