شوف تشوف

الرأيالرئيسية

حذاء بعشرة ملايين دولار

 

بقلم: خالص جلبي

 

في 14 دجنبر 2008، ألقى الصحافي العراقي منتظر الزيدي حذاءه على الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، خلال مؤتمر صحفي عراقي. تهرب بوش بسرعة، وتجنب أن يصطدم بأي من الحذاء. اصطدم الحذاء الثاني بالعلم الأمريكي، وبدأت المزايدة على ثمن الحذاء، فتقدم مواطن سعودي فدفع عشرة ملايين دولار ثمنا له. وهكذا نحن العرب عبيد الأحذية، وفاتنا معنى أن يضرب أكبر رئيس دولة فلا يشنق الرامي، أو يوضع على الخازوق فورا. لنتصور أن الصحافي العراقي وجه كلمة واحدة لصدام تنال من «ربوبيته»، ألا بؤسا لأمة العرب..

وأتذكر حينما عرضت قناة «فوكس» الألمانية طرفا من تدمير المدن الألمانية، في الحرب العالمية الثانية. وعرضت مدينة هامبورغ الساحلية وقد تحولت إلى كرة من النيران، بعد أن فر مليون وقتل في أسبوع 30 ألفا من سكانها، وبقي 800 ألف بدون مأوى. وأظهر الفيلم الذي كان مع بدايات الأفلام الملونة، وقد ظهر فيه الشعب الألماني عاريا معذبا جائعا.

وعندما دخلت أنا ألمانيا للتخصص في الثمانينيات، كان الناس يعيشون في أرض تفيض لبنا وعسلا وزبدة، فسبحان مقلب الأحوال، وتلك الأيام نداولها بين الناس. وكان قيام ألمانيا كما يقول «مالك بن نبي» من هذه القيامة الأرضية معجزة. ويقول الرجل إن هذا هو الفرق بين (بناء) الحضارة و(شراء) الحضارة. فلو أن ألمانيا أرادت أن تنفق ما في الأرض ذهبا ومثله معه، ما أمكن لها أن تعيد بناء مدينة واحدة، ولكنها بإرادة الحضارة أعادت بناء ألمانيا وعلى نحو أفضل.

وعرض الفيلم شهادات الناس المتبقين من تلك الأيام، وقد أصبحوا شيوخا وعجائز. وكان ظنهم أن قرنا آخر لن يعيد ألمانيا إلى ما كانت عليه، والذي حدث أن ألمانيا قامت من الرماد. ومن عظام المدن نشأت مدن حديثة جميلة. ويقول بعض ممن اجتمعت بهم، أثناء رحلة تخصصي الطبية بين أظهرهم: كانت الحرب في صالحنا، فقد مسحت المدن القديمة، فبنينا ألمانيا الجديدة تلتمع كتمثال الرخام تحت أشعة الشمس واحترام العالم. وكلامهم يحمل نصف الحقيقة، فلا يشترط الحرب والتضحية بخمسين مليونا من الأنام كي تبدأ حملة البناء كما كان في ضحايا الحرب المذكورة، ولو تكررت مع حماقة بوتين فلن تكون بخمسين، بل ببضعة مليارات من الأنام.

ولفت نظري حديث هانس آبل، وهو سياسي ألماني مخضرم، فقال إن هامبورغ أصبحت مثلا في التدمير، فبدأ الحلفاء في استخدام مصطلح همبرة، أي أن يكون تدمير هامبورغ نموذجا يحتذى لبقية المدن، وهذا الذي كان في تدمير العاصمة الجميلة برلين، حيث بدأت حملة من ألف طائرة في فبراير 1945م لهدمها، فألقت 70 مليون طن من القنابل عليها (كما فعل البراميلي في سوريا، فدكها بسبعين ألف برميل)، وكان ذلك تمهيدا لدخول السوفيات إليها من الشرق. ولكن معركة برلين كانت ضارية، وذكرت قناة «ديسكفري» مقتل ثلاثة ملايين من الناس فيها وما حولها.

ويقول هانس آبل إن غورنج، مارشال الجو، قام بزيارة إلى مدينة هامبورغ وقد تحولت إلى رماد ودخان في 6 غشت عام 1944، فأراد الناس أن يقولوا له: أهذه هي مزاعمكم أيها النازيون في نقل الناس إلى جنتكم، فحولتم الحياة إلى جهنم تتلظى؟ يقول آبل، ولكن لم يتجرأ أحد أن يقول خوفا على حياته. وهذا القانون إنساني عام يشترك فيه الألماني مع العربي. وعندما زعق الكبيسي العراقي في جامع أبو حنيفة النعمان في بغداد، بعد رحيل طاغية دجلة: فقال: سنخرجكم أيها الأمريكان، كان مقطوع اللسان تحت سدة صدام المصدوم لمدة أربعين سنة، فلم ينطق حرفا. ويجب أن تكون عندنا من الشجاعة أن نعترف كما اعترف السياسي الألماني هانس آبل. وهذا يذكر بالمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي، حينما فاجأ الرئيس الروسي «نيكيتا خروتشوف» الحضور بهجوم شامل ساحق على شخصية ستالين الطاغية، وهو مؤتمر شكل نقطة تحول في تاريخ البلشفية، قبل أن تنهدم نهائيا مع مجيء غورباتشوف. وقف خروتشوف يعدد جرائم ستالين وسأل: كيف يحدث مثل هذا، فيتسلط فرد على رقبة أمة؟ استمع الحضور بإنصات مرعب، فالكل لهم قصص درامية مع الطاغية. ثم قطع الصمت صوت رجل من طرف قاعة غاصة: ولماذا سكت أنت؟ وما منعك أن تقول شيئا؟ تفجرت الكلمات مثل قنبلة في القاعة، فساد صمت رهيب، قطعه خروتشوف بعد أن سكت لعدة ثوان: من القائل أين هو؟ لم يمد أحد يده. ولم ينبس أحد ببنت شفة، واستولى على القاعة صمت رهيب أشد. وقف خروتشوف لعدة ثوان صامتا، ثم قال: والآن هل علمت لماذا سكت أنا ولم أفعل شيئا؟ إنه تماما مثل الذي فعلت أنت؟ وكان جوابه أبلغ من كل حجة. كان خروتشوف، أيام ستالين، يعلم تماما أن أي اعتراض على الطاغية يعني مصير صاحبه قتلا على صورة ما. ويقول «فوكوياما»، صاحب كتاب «نهاية التاريخ»، إن نظرة سوء من ستالين كانت تجعل صاحبها يرتعش فرقاً كل حياته. وخروتشوف لو أراد أن يجادل ويبرهن لمدة ساعات عن موقفه من ستالين، ما استطاع ذلك ولم يقنع أحدا من الناس، ولكنه بهذه الحركة كان جوابه أكبر من كل جواب. ويقال أحيانا إن الصمت أبلغ في الإجابة من كل جواب، وإن كلمات قليلة تغني عن شروح موسعة، وإنه ليس كل كلام يعلق أو يرد عليه أو يفند. وتبقى الكناية أفضل من الإفصاح، والترميز أنفع من المواجهة أحيانا، والصمت أفضل من الكلام. وفي موقف قد يكون الكلام من فضة، ولكن السكوت من بلاتين.

لا ننسى طبعا حذاء الزيدي الذي قذف به بوش، فهو الآن يباع بعشرة ملايين دولار، ويحافظ الزيدي على رأسه مع الحذاء التاريخي، عظة للغافلين وبرهانا للأمريكيين والعراقيين إلى يوم الدين.  

 

نافذة:

نظرة سوء من ستالين كانت تجعل صاحبها يرتعش فرقاً كل حياته وخروتشوف لو أراد أن يجادل ويبرهن لمدة ساعات عن موقفه من ستالين ما استطاع ذلك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى