يونس جنوحي
الخسارة الرمزية التي تسبب فيها زلزال الحوز للمدينة القديمة، في مراكش، لا تُعوض. تاريخ كامل سقط في أقل من خمسين ثانية.
اللجان التي تتجول هذه الأيام بين الأزقة الضيقة لإحصاء المتضررين والمنازل المنهارة والمحلات المتضررة، عليها أن تضع في الحسبان أن الأمر يتعلق بإرث تاريخي وليس فقط بعملية إعادة إيواء للمتضررين.
تستحق المنطقة فعلا خطة إعادة تأهيل للمدينة القديمة كما وقع في الرباط وفاس وطنجة.
ففي الوقت الذي فرض فيه الحجر الصحي على المغاربة البقاء في منازلهم وعدم مغادرتها إلا بوثيقة رسمية تسمح لصاحبها بالتنقل خارج المنزل، كانت السلطات المحلية في المدن المذكورة تسابق الزمن لإنهاء أشغال تهيئة المدينة القديمة وإصلاح المنازل العتيقة والمحلات، وكانت النتيجة تستحق التنويه فعلا. إذ إن منازل «لمْدينة القديمة» في أي مدينة في المغرب، لا بد وأن تكون آيلة للسقوط بحكم أن بناء أغلبها يعود إلى أكثر من قرنين من الزمن. أما في مدينة مراكش، فهناك مناطق تعود إلى زمن السعديين. صحيح أنها تهدمت في أحداث سابقة، وأعيد بناء أغلبها وترميمها، لكن هذا حدث قبل أكثر من قرن ونصف، وأغلب المنازل يعود تاريخها إلى ما قبل هذا التاريخ.
مراكش كانت دائما مدينة مؤثرة سياسيا في تاريخ الدول التي تعاقبت على حكم المغرب. الأزقة الضيقة المرتبطة بساحة جامع الفنا، قلب مدينة مراكش، تبقى بمثابة العروق التي تربط هذا القلب بمنازل المدينة العتيقة.
ورغم أن مراكش لم تكن بها قنصليات أجنبية، بحكم أنها كانت تُعتبر قلب المغرب وآخر القلاع الحصينة التي بقيت منيعة على الاختراق الأجنبي، إلا أنها كانت في محطات تاريخية كثيرة، حتى في أيام المولى إسماعيل الذي حكم المغرب سنة 1672، قِبلة لمبعوثين أجانب، أشهرهم سفير ملك فرنسا لويس الرابع عشر.
فهذا السفير جاء إلى المغرب وطلب لقاء السلطان، فانتقل إلى مراكش لكي يناقش معه ملف الأسرى الفرنسيين في المغرب. وكان هذا السفير، كما ورد في كتابات تاريخية كثيرة، أبرزها مذكرات الأسير الفرنسي «موييط»، واضعا يده على قلبه ويعد الأيام في مراكش، ويسارع إلى مغادرة المغرب قبل أن تتخذ فرنسا قرارا بشأن الأسرى قد يُغضب المغاربة.
أزقة مراكش لم يكن يقطن بها الأجانب بشكل رسمي، إلا عندما اقتربت فرنسا من أن تضع يدها على المغرب سنة 1912. لكن اقتناء الأجانب، الإنجليز والفرنسيين على وجه الخصوص، لعقارات في قلب المدينة القديمة، لم يصبح رائجا إلا عندما وصل أغلب الدبلوماسيين والمشاهير الذين زاروا مراكش أيام الحماية الفرنسية، إلى مرحلة التقاعد وفكروا في الاستقرار نهائيا بمراكش التي عاشوا فيها «الفترة الذهبية» خلال مسارهم السياسي والفني.
عندما غزا هؤلاء الأجانب، من مختلف الجنسيات، أحياء مراكش، دق المحافظون ناقوس الخطر واعتبروا أن منازل المدينة القديمة، بمعمارها المغربي وطرازها الفريد، سوف تصبح كلها في ملكية الأجانب إذا بقي هؤلاء يشترون العقارات بالوتيرة نفسها. لكن تمسك بعض الأسر المغربية بمنازل العائلة، واختيار آخرين تحويل «الرياض» إلى فندق مميز يستقبل السياح، كانا تطمينا مباشرا بدد هذه المخاوف.
اللجان التي تتجول هذه الأيام بين ركام المدينة القديمة، أمام مسؤولية تاريخية، حتى لا تضيع خصوصية واحدة من أكثر المدن المغربية عراقة، وتتحول إلى شيء آخر. يجب أن تُبنى تلك المنازل بالطريقة نفسها التي كان أجدادنا يبنون بها منازلهم التي صمدت كل هذه المدة إلى أن أحالها الزلزال على التقاعد، وليس بطريقة الشقق الحالية، التي تستحق فعلا أن تُسمى «شُققا» وليس شيئا آخر..