حاجات سياسية للثقافـة والفـكـر
للمثـقـف – أديبا كان أو فنانا أو باحثا – حريـتان لا تكون الثقافـة والإبداع والكتابة إلا بهما أو بإحداهما: حرية يصطنعها لنفسه، هي ماء صنعته الذي تسبـح فيه والـنُّسْغُ الذي تغتذي به.
وهذه حرية ذاتية منتزعة لا ممنوحة، وهو لذلك يتحمل تبعات التمسك بها، أو توسعة مساحتها إلى حد أبعد مما هي فيه ومما لا تسمح به الموانع؛ وحرية موضوعية مأتاها من النظام القانوني والسياسي للحقوق والحريات في الدولة التي يعيش في أكناف تشريعاتها. وهي حرية عامة، لا امتيازيـة، يكتسبها من حيث هو مواطن في الدولة يتمتـع، أسوة بسائر الناس، بحقوق المواطنة وفي جملتها تلك التي تَعْـنيه كمثـقف: حريـة التفكير والتعبير والنشر.
قد يكون لهذه الحريـة الموضوعية وجود وقد لا يكون تبعا لنوع النظام السياسي القائم في البلد (ديمقراطي، استبدادي، كُـلاني…)؛ وقد يكون وجودها – إن وجـدت – محدودا ومساحته ضيقة ومراقبة، بحيث لا يتاح معها للثقافة والفكر سوى هوامش شحيحة. ولكن الذي لا مِـرْيةَ فيه أن الثقافة والفكر يعتازان، في الحد الأدنى من شروط إمكانهما، تلك الحريةَ الداخلية التي تؤمن للتفكير والتعبير فضاءهما الوجودي، وحيث لا يُـتَصَور إمكانهما المادي من غير إيجادها، كحرية، واجتراحها ولو بتضحيات هي في حُـكْم ما تَحْمِل عليه الضرورة ولكن، أيضا، في حكم ما تفترضه عملية التفكير والإبداع والتعبير.
قلنا إن الحرية الذاتـية هذه منتزعة؛ تنتزعها الذات لنفسها لممارسة الحق في البحث والإبداع والتعبير بالكتابة أو بغيرها من وسائط التعبير الأخرى. وهذه الحرية شاملة غير موضعية؛ بمعنى أنها تفرض نفسها على المثـقفين، مبدعين ومفكرين، سواء في البيئات الاجتماعية والسياسية التي لا تتمتع بنظام قانوني للحريات العامة والفردية، أو في تلك التي قام فيها ذلك النظام وترسخ فأحيطت فيه الحريات بالضمانات والحرمة من الانتهاكات. أما شموليتها فمبناها على تلازم ماهـوي بين الفكر والحريـة، الإبداع والحرية، الكتابة والحرية، وحيث لا مجال لافتراض إمكان لوجـود واقعي لأي منها في غياب الحريـة أو انعدامها.
وإذا كان المثقف الأديب أو المفكـر في البلدان التي تقوم فيها دولة القانون والحريات، مثل بلدان الغرب، يحتاز الحريتين معا احتياز مُلكيـة، مستفيدا مما تمدانه به من ثمرات وإمكانيات للتسخير لا حـد لها، فإن مثقف بلاد الجنوب، وفي جملتها البلاد العربية والإسلامية، يُلْفي نفسه مدفوعا – في غيبة الحرية الموضوعية القانونية – إلى معاناة ضيق هـوامشها في بيئـته، وبالتالي إلى محاولات – تبدو، أحيانا، فدائـية – إلى توسعة مساحة حريـته الذاتية ورفع سقفها، للاعتياض بذلك عن غياب الحرية الموضوعية. وغالبا ما يتأداه ذلك، في المطاف الأخير، إلى دفـع أكلاف باهظة من بقايا حريته – وأحيانا من حياته – ثمنا على اجتراء قد يكون في عرف سلطة جائرة فعلا حراما يجاوز العصيان. ولنا في سيرة ذلك الجيش العرمرم من مثقفي الجنوب المقذوف بهم إلى السجون أو الموزعين على المنافي النائية المثال على محنة الحرية في هذا الصـقع الواسع من أصقاع العالم.
وكما يأخذ الفكر مداه والتعبير مداه، في المجتمعات الكافلة للحريات، فتسفر ثقافـة مثل الثقافة الغربية عن جرأتها في فتح الآفاق، واقتحام المناطق الممنوعة، ونقد الوثـنيات الذهنية وهـدم أنصابها، وتكريس المعرفة في المجتمع سلطة ذات حرمة وشأن واعتبار…، كذلك يفعل مثقـفو الجنوب – ومنهم مثقفون عرب – حين يجدون في منافيهم البيئةَ الحاضنة لأفكار وألسنة تلعثمت في أوطانها أو أصيبت بحُبْسةٍ، لتنطلق في الفضاء الفسيح مميـطة اللـثام عن وجهها البهي وعن نفيس منتوجها. وهذا إنما يُسْتَـدَل به على أن ما قد يبدو من فوارق بين الثقافات في السعة والنقد والبناء والتوثب والإبداع ليس إلى القرائح والاستعدادات الذاتية يُـرَد، لا ولا إلى مخزون المعرفة ورصيدها وإنما إلى الشـرط السياسي الموضوعي مرده: أوضاع الحريـات.
ليس من سبيل للثقافة والفكر العربيـين إلى الانخراط في الكونية الإنسانية، وإلى تفجير طاقة الخلق والإبداع، والتشـوف إلى احتلال موقع نِـدي في النظام الثقافي العالمي؛ بل لا سبيل لديهما إلى ثورة ذاتية عميقة تتأهلان بها لإجابة مطالب الفرد والمجتمع وحاجاتهما المعرفية والجمالية، في الداخل العربي، إن لم تقع إعادة إعمار العمران العربي ونظامه السياسي على قواعد الحداثة والمدنية؛ وأوكد الحاجات التي لا تقبل الإرجاء – في عملية الإعمار- توطين مبدأ الحـرية في النظام المؤسسي، وإشاعة قيمها ونشر ثقافتها، ورفع القيود المضروبة على الحق في الرأي والنـقد والاختلاف. وما أغنانا عـن القول إن هذه السيرورة من الإعمار المجتمعي والدولتي سياسية واجتماعية بمقدار ما هي ثقافية، وإن المثقفين جـزء عضوي من قواها لا غنى عن دورهم الريادي فيها.
عبد الإله بلقزيز