شوف تشوف

الرأيالرئيسيةرياضة

جنازة مصور

حسن البصري

 

شاءت الأقدار أن يموت المصور الرياضي المغربي، نور الدين ديان، يوم قتلت الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة.

في تأبين نور الدين كان المصورون الحاضرون من أصدقاء الراحل يتداولون محنة العدسة، لحسن حظهم أن الملاعب ليست حقولا مزروعة بالألغام وأن أقسى الغارات تأتي من كرة طائشة أو من «فيراج» يمقت الصورة ويطالب بمصادرة آلات التصوير.

في مقبرة «الغفران» عثروا على قبر لجثمان ديان بعيدا عن ضوضاء الملاعب، بعد أن قضى أيامه الأخيرة معتقلا في غرفة العناية المركزة. مات الرجل وظلت قبعته الحمراء التي تربعت طويلا على رأسه يتيمة، بعد أن فقدت لونها بسبب المتغيرات المناخية وعوامل التعرية.

لو رأى السرطان ابتسامتك وروح الدعابة التي تسكنك وحبك الجارف لمنتخب بلادك لاعتذر عن مهمة إبادتك، ولو رأت رصاصة الغدر عيني شيرين لرق قلبها وغيرت وجهتها.

حين يموت المصورون تنقطع أعمالهم إلا من زملاء يدعون لهم وصور تخلد ذكراهم وملاعب شاهدة على حضورهم. الشرفاء لا يسقطون نحن عشيرة الصحافيين الذين نسقط في اختبار الوفاء ونصر على جعل المصور مجرد مضاف إليه مجرور.

يغيب عن جنازة المصورين وعن حفلات التأبين أولئك الذين ظلوا صيدا للعدسات، يختفي رؤساء الفرق والمدربون واللاعبون والحكام والمندوبون، وكلما افتقدنا مصورا نجدد السقوط جميعنا في اختبار الإنسانية، لأنهم يصرون على الحضور فقط للموت المتلفز وللجنائز التي تتم تحت رعاية مستشهرين.

ولأنه رجل بسيط فقد صارع الموت بالطب الشعبي وحين عجز عن وقف الداء، خضع للعلاج في مستشفى عمومي قبل أن يموت بسيطا ويودعه زملاؤه في مأتم بسيط أيضا. لقد أثبت تقرير الوفاة أن المصور مات بداء الجحود والنكران، وأن أعراض الألم ظهرت عليه منذ وفاة رفيق دربه نور الدين بلحسين، وهو الذي قضى عمرا كاملا بين الملاعب والطرقات، وشهد سنوات صعبة من التضييق والمنع وانهالت عليه شتائم المدرجات لكنه ظل محتفظا بضحكته الساخرة.

في حفل تأبينه نشبت حالة من الجدل بين المصورين الحاضرين، حول جواز الترحم على الراحلة أبو عاقلة من عدمه، كونها تعتنق المسيحية، انطلاقا من إيمان البعض بأن الرحمة لا تجوز إلا على المسلمين، لكنهم سرعان ما غيروا الموضوع وانخرطوا في جدل «البادجات».

قدر لي أن أحضر مراسيم دفن جثمان المصورة الفوتوغرافية ليلى العلوي في جوف مقبرة الإمام السهيلي بمراكش، بعد أن فارقت الحياة إثر إصابتها برصاص إرهابيين في واغادوغو، اختلفت الطقوس ففي جنازتها حضر الوالي ونقابة الصحافيين وهيئات المصورين وشخصيات من عوالم السياسة والإعلام والثقافة وحقوق الإنسان. وتليت رسالة وزير الثقافة في ليلة التأبين وتقرر تنظيم معرض دائم لصورها وإحداث جائزة التصوير الفوتوغرافي باسمها، متخذة من مراكش مقرا لها. كما تم تأبينها أمام المكتبة الوطنية بالرباط، بتلاوة سورة الفاتحة على روحها.

حين مات مصور الكرة شيعوا جثمانه سرا وسار خلف التابوت زملاؤه في مهنة المتاعب، وركض خلفهم المؤثرون اللاهثون وراء «البوز» حتى بين القبور، أهكذا يمشي بك المشيعون لحفرة مظلمة بعيدا عن صخب الكرة، وأنت الذي لا يهدأ لك بال إلا إذا استنشقت رائحة العشب الأخضر في الملاعب وقطعت مئات الكيلومترات بحثا عن صورة أشبه بإكسير الحياة.

مات نور الدين وهو يتأبط بطاقة «الراميد»، مات دون أن تشمله التغطية الصحية والإنسانية، بينما لازال كثير من زملائه يتحسرون لأن المرض أقعدهم وحال دون السير خلف جثمان رفيق دربهم.

سيقف المصورون دقيقة صمت لقراءة الفاتحة على روح الفقيد قبل صافرة بداية المباريات في ملاعبنا، وستسقط ورقة أخرى من أوراق الإبداع الفني، قبل أن ننسحب تدريجيا من فضاء الملاعب ليحتله المؤثرون ويحتفلوا بيوم الجلاء. 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى