اختار ملك الكرة الأسطوري الراحل بيليه، مقبرة استثنائية أوصى أن يوارى جثمانه فيها، فقد ألح على أن يدفن في قبر عمودي بالطابق التاسع من مبنى فخم يطل على ملعب «سانتوس» الذي كان شاهدا على عظمة هذا الرجل.
قالت نجلة بيليه، إن والدها قضى ساعات طويلة في اختيار مكان دفنه، بل ووضع ترتيبات الجنازة وفاضل بين أكثر من مدينة لتكون مرقده الأخير، رفض بيليه مقترحا بالدفن في ريودي جانيرو وساو باولو وبرازيليا ليقع الاختيار على مسقط الرأس والقلب.
تعددت الروايات حول سر اختيار الدفن في الطابق التاسع، فقيل إنه تكريم لوالده الذي كان حمل قميصا رقمه تسعة، وفي رواية أخرى إن الطابق التاسع يطل مباشرة على ملعب «سانتوس»، لكن الأهم في الوصية أن يدفن عموديا حتى يظل واقفا منتصب القامة ولو في مماته.
حين مات مارادونا كشف عن وصية غير متوقعة تركها النجم الذي رحل عن عمر ناهز الستين، فقد أوصى الدولة الأرجنتينية بتحنيط جسده ليعرض للجمهور في أحد المتاحف إلى جانب الجوائز والتذكارات وما تبقى من أمتعته.
أما فيرونيكا أوخيدا خليلة مارادونا فقد شرعت في بناء ضريح لنقل الجثمان إلى جوفه، كي يصبح مزارا للسياح من كل بلدان العالم، وللاعبين الناشئين الذين سيتهافتون على الضريح ابتغاء بركات الولي الصالح سيدي دييغو نفعنا وإياكم بعطاياه.
نجوم الكرة في بلدي لا يكتبون وصايا قبل الرحيل، ولا يحجزون قبورا حين يقتربون من خط الوصول، فقط يعلنون السماح من ذوي القربى ويبرمون معاهدات الصلح ويلغون أخرى.
أساطير الكرة في بلدي لا يختارون قبورا، لأن المقابر ولمكر الصدف تجاور ملاعبنا، فلا يبعد ملعب «تسيميا» عن مقبرة الغفران ولا يبعد ملعب «الصخور السوداء» عن مقبرة الشهداء، وبين ملعب «العبدي» بالجديدة ومقبرة سيدي موسى بضعة أميال، وهلم قبرا.
عندما يموت أساطير الكرة في بلدي يتوقف نبض الفرق وتنتعش المقابر وتزدهر تجارة بيع الورود والماء المعطر، ويتكاثر المتسولون ويظهر من بين عشيرة اللاعبين فقهاء ومؤرخون ووسطاء، ويصبح الصحافيون أكثر عددا من المشيعين.
عندما يموت أساطير الكرة في بلدان أخرى، تعلن الحكومات الحداد الوطني وتنكس الأعلام ويرتدي عشاقهم السواد ويتهافتون على شراء الورود والشموع وقمصان الراحلين، وتتوقف الكرة عن الدوران حول نفسها إلى أن تجف الدموع.
عندما يموت نجوم الكرة في بلدي يكتفي الأنصار بوضع صورهم في هواتفهم الذكية ويبحث المشجعون عن صور من الأرشيف، وفي أحسن الأحوال تساهم إدارة النادي بنقل المشيعين في حافلة الفريق، وفي اليوم الموالي تظهر الأرامل في تصريحات حصرية محشوة باللوم والعتاب.
حين مات بيليه تقرر دفنه بحضور رئيس «فيفا» وتسابق المستشهرون على رعاية جنازة لها رعاة رسميون، وحين توفي العربي بن امبارك أسطورة كرة القدم المغربية ظل أبناؤه يركضون بين المحاكم لاسترجاع عقار ابتلعه المضاربون. ولما استيقظ الوعي في نفوس القائمين على الشأن الكروي أطلقوا اسمه على ملعب مهجور تحيطه دكاكين بيع السردين المقلي وتنبعث منه رائحة الأسماك.
عندما مات ظلمي لم يكتب وصية، لأن سكتة قلبية داهمته، وبعد مراسم الدفن في مقبرة الشهداء، جرت معركة في مدخل المقبرة بين فصائل حسبان وبودريقة، عرفت بمعركة المقابر، فخيل للحاضرين أنها حرب من أجل إرث.
دفن بيليه قبالة ملعب سانتوس، لكن أغلب الناس لا يعلمون أن النادي القنيطري لعب على أرضية هذا الملعب، وقع مسؤولوه عقد شراكة مع الفريق البرازيلي، دفن العقد في جوف الملعب كما دفن «الكاك» في دهاليز بطولة الهواة.
الأساطير في بلدي يموتون مرتين بالإشاعة وتكون الثالثة ثابتة.
حسن البصري