جدلية الكراهية والعنف والحب والسلام
خالص جلبي
إذا كان العنف شجرة خبيثة جذورها الكراهية وثمرتها الخوف، وجوها اعتماد الخطاب اللاإنساني في اللفظة السامة وتعبيرات الوجه الحاقدة، وانتهاء باستخدام أدوات الأذية الفيزيائية، ابتداء من الحجر والهراوة، وانتهاء بالصاروخ النووي؛ فإن شجرة السلام جذورها الحب وثمرتها (الأمن)، الذي عبر عنه الخطاب الإبراهيمي القديم (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
اعتبر القرآن أن فكرة العنف تنمو (كشجرة خبيثة) تماما كما تنمو شجرة (الحب). كلا الشجرتين تمنح ثمارا، شجرة العنف لها ثمار، وشجرة الحب لها ثمار.
شجرة العنف ثمرتها الخوف والتدمير، وشجرة الحب ثمرتها الأمن والسلامة، لذا اعتبر القرآن أن الكلمة الخبيثة تصبح شجرة، ولكنها (تُجتث من جذورها) مالها من قرار؛ أما شجرة الكلمة الطيبة فأصلها ثابت وفرعها يضرب في السماء (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها).
حالة التشظي الداخلي
لنحاول أن نقوم بتفكيك نفسي، ونطرح السؤال لماذا لا تقوى شجرة العنف على الاستمرار في الحياة؟ أولا يعتبر القرآن أن الفكرة كائن حي، فالحياة لازمة لا تنفك عن الأفكار. كل فكرة تولد مثل الجنين، عندها طاقة الحياة والاستمرار فيه إلى حين، ولكن الآية تلفت نظرنا إلى أن الفكرة (الطيبة) تكسب الديمومة، في حين أن الفكرة (الخبيثة) تنمو إلى حد لا تستطيع تجاوزه، ثم تهوي بالكامل في رحلة اندثار وتقوض كاملين؟ ولكن لماذا؟
البيولوجيا والسيكولوجيا والفيزياء النووية
نحن نعلم في الفيزياء النووية أن نويات العناصر المشعة غير مستقرة؛ فيحصل نوع من الانحلال الداخلي؛ فتنهار النواة، ومعها شخصية العنصر بالكامل فتتبدل، وهكذا يتحول العنصر المشع إلى عنصر خامل.
هذا الاضطراب الداخلي، وعدم التماسك، والتنافر بين عناصر النواة، يجعلها تتفجر داخليا باتجاه الانحلال والتقوض. مشكلة العنصر الداخلية هي ما حرمته الهدوء والراحة في رحلة الوجود، فلا ينعم بالهدوء ما لم يتحول إلى عنصر مستقر خامل. الكراهية هي حالة تشظي داخلية؛ فالذي يكره لا ينتبه إلى أنه يكره نفسه، والحب هي حالة اتحاد داخلي قبل كل شيء. الحب هو عملية اندماج، والكراهية هي عملية تشظي اجتماعي وتمزق عن الآخر، وتهميش له وانسحاب وارتداد على الذات.
مع الكراهية يتولد التشنج والسوداوية، الريبة والشك، الحذر وكل مشتقات الترصد والكيد والتآمر، ومعها مشاعر خطيرة من محاولة التخلص من الآخر، وأحيانا بالتصفية الجسدية. عند السقوط في شرك الانفعالات، والوقوع في قبضتها المريعة، تبدأ كل مؤشرات البيولوجيا تروي نغما حزينا تنشده وتبكي له كل أعضاء الجسم. الضغط يرتفع. النبض يتسارع، المعدة تفرك، الأمعاء تمسك، المثانة تحتقن، القلب يتعب، والأوعية تتخم بمادة الأدرينالين المادة السامة المؤذية، وكأنها الحجارة تسقط من حواف الجبال المحيطة بشارع أنيق نظيف. وبالطرف المقابل فحقنة من الحب في الجسم تمنحه الهدوء، وتهبه النشوة والاسترخاء، وشعور الأمن والسعادة وتحقق الذات.
لماذا اقترن الحب بالجنس؟
الحب أعظم من الجنس وممارسته، ولكن أحد تجلياته جنسية، هي ذلك الاختلاط والذوبان في الآخر. قد يكون الجنس بهيميا بدون حب، ويصبح إنسانيا عندما يمتزج بعصارة الحب، فهذا مشعر التفريق بين ممارسة الحب عند الحيوان والإنسان. الأرانب تمارس الجنس للتكاثر، والإنسان تحكم اليوم في ضبط الإنجاب؛ فهو يمارس الجنس مستقلا عن الإنجاب.
عندما تتصاعد دفعة الحب عند الإنسان لا يشعر بقمته وتحقيق هدوء النفس ما لم يمتزج بالطرف الآخر. العمل الجنسي هنا تعبير عن تجلي أعظم للحب، استخدم القرآن تعبيرا لطيفا عنه (فلما تغشاها)، (وجعل بينكم مودة)، (هن لباس لكم). نبي الإسلام لم يخجل أو يتحرج من مناقشة موضوع الجنس، واعتبره في أحد أحاديثه أمرا يؤجر عليه الإنسان عندما يضعه في الحلال. تفضي ثمرة العلاقة الجنسية كأحد تجليات الحب إلى الإنجاب وحفظ النوع وتكرار الذات، في نسخة أصلية لا تقبل التزوير، من طرفي علاقة الحب، كشهادة توثيق دامغة عن عمق هذه العلاقة، تعمق العلاقة لاحقا بترعرع الأطفال كثمرة حب وبناء شبكة علاقات اجتماعية.
الحب فيض داخلي
لا يمكن أن نحب الآخرين قبل أن نحب أنفسنا. ولا يمكن أن نحترم الآخرين ما لم نحترم أنفسنا، ونعترف بذواتنا ونتأملها في ضوء جديد، بل ولادة جديدة، فالإنسان بعد الولادة الرحمية أمامه ولادات أخرى، أشار القرآن إليها عندما قال: (أو من كان ميتا فأحييناه)، فهذا مؤشر إلى أن النفس تقسو (فتصبح كالحجارة أو أشد قسوة)، وأن النفس تمرض بمرض (فطال عليهم العمر)، وتصل إلى الموت بانقطاع (الصيرورة) فالحياة تدفق لا يتوقف للصيرورة، ولكن قد يتعفن الإنسان فيموت قبل الموت، ويجب أن نفهم الضلال والشقاء كحالة نفسية من موت النفس في الحياة، بتعطيل منافذ الفهم كمصادر تغذية للروح، والإيمان تلك النشوة من الأمل المشرق والنشوة العارمة من معايشة الحياة والناس والتاريخ. الحب هو ذلك الترياق الذي يعيد الحيوية إلى مفاصل الجسم، كي يعيش مستقبِلاً لوميض ومؤشرات الحياة التي لا تنتهي. «طوق الحمامة» عند ابن حزم، أعجب ما تركه لنا التراث الإسلامي مذكرات رجل فقيه دشن اتجاها عقلانيا بالكامل في الأندلس عرف بالمدرسة الظاهرية، ولكنه في كتابه (طوق الحمامة في الألفة والألاف) يتحدث بكل صراحة عن الجنس والحب، في حديث يتناول عشرات التجارب والقصص له شخصيا ولأصحابه، في تفكيك فلسفي وتحليل نفساني بديع مثير، مما يجعلنا نفهم صورة التقوى، على نمط جديد من التوازن النفسي، وإشباع الحاجات، وضبط الغرائز بالتروية المعتدلة، وعدم السباحة في الهلوسات الجنسية، والمطاردة السرية للقصص الخليعة.
يذكر (ابن حزم) في كتابه قصة حب عجيبة عن رجل أندلسي هام بجاريته حبا، وغضب منها يوما فباعها إلى آخر (لنعذر ابن حزم فهكذا كانت الأيام وقتها)، ثم شعر بعظم غلطته، فحاول استردادها بكل ما يملك، ويبدو أن الفتاة كانت غير عادية مما جعلت الثاني يعشقها حتى العظم؛ فلما احتكما إلى الوالي قدمهما إلى تجربة مريعة هي إلى حافة الموت أقرب! فالوالي كان على شرف عظيم (مرتفع من الأرض) فطلب من الأول رمز حبه وصدقه في التعلق بها؟ فما كان منه إلى أن رمى بنفسه من الشرف، فهوى فترضرض ولكنه نفد من الهلاك بقوة الحب، فطلب من الثاني أن يفعل كما فعل صاحبه فتردد فدفع بالجارية إلى الأول.