شوف تشوف

الرأي

جدلية العنف واللاعنف من منظور قرآني (1)

بقلم: خالص جلبي
في جلسة بمناسبة مؤتمر نظمته مؤسسة سجى بعمان، (بعد حديث لمفكر إسلامي فلسطيني وآخر أردني)، قال الرجل الثالث وهو الأخ الفاضل الوسيم العاقل (جمال خاشقجي)، رئيس تحرير جريدة «الوطن» السعودية، (والذي تم اغتياله لاحقا وضاعت آثاره في إسطنبول عام 2019)، (قال) لمن حوله: «يا جماعة انتبهوا إلى هذه الأفكار، فأنا في جعبتي خبرة واسعة من العمل الإسلامي في أفغانستان». وهو كلام جدير بالتأمل، واستفاد الرجل مما تكلمت، وأكرمني لاحقا أن ضمني إلى باقة الكتاب عنده في الجريدة، فكتبت 441 عمودا، حتى طار هو من الجريدة، وبطيرانه طرت أنا لاحقا، وكله بسبب الفكر السلامي العقلاني الانفتاحي، فدفع الرجل ثمن أفكاره وأخيرا دمه.
وفي يوم اجتمعت في بيروت مع رجل مرموق من قيادات العمل الإسلامي، الذي انشق وأنشأ له تيارا خاصا في السعودية عرف باسمه، ونشر كتابا بعنوان «وجاء دور المجوس»، هاجم فيه الثورة الإيرانية تحت اسم مستعار، وسمى الإيرانيين بالمجوس، وكان برفقته رجل مهم من الأدمغة الإسلامية الحزبية، فذكرا نظرية جودت سعيد في اللاعنف الإسلامي الذي أعلنه عام 1964م بكتاب بعنوان «مذهب ابن آدم الأول»، استند فيه إلى الآيات الموجودة في سورة المائدة عن قصة ولدي آدم، وهي قصة ملفتة للنظر بقدر هامشيتها وغموضها في الثقافة الإسلامية. وأتذكر من السيد صاحب كتاب «وجاء دور المجوس» قوله، إن جودت سعيد (مخلص) ولكنه (غير واع)، وهو مع زميله اعتبرا نفسيهما واعيين جيدا، وجودت سعيد ساذج مغفل، لأنه يدعو إلى السلم. ولا أظن أن شيئا تغير منذ أربعين سنة حتى الآن في موقف جودت سعيد والرجلين اللذين ذكرت، ولكن الذي تغير هو أن مرض العنف ارتطم بالبرجين في نيويورك؛ فلم يعد محليا عربيا؛ بل متفجرات على مدار العالم، ومصيبة كونية، وحروب تندلع، وقوى أجنبية تتدفق إلى أفغانستان والعراق وسوريا واليمن ولبنان، والمنطقة تتعرض لرياح تغيير عاصفة قاصفة. ومن لم يغير ما بنفسه أرسل الله إليه ما يدفعه إلى التغيير، ومن يغفل عن سنن الله، فإن سنن الله لا تغفل عنه. كان في الكتاب مسطورا.
وهذه الإشكالية واجهتني أيضا في مؤتمر فرجينيا بأمريكا عام 1993، حين دعيت للمشاركة في مؤتمر التعددية الذي نظمه المؤتمر العالمي للفكر الإسلامي، ولم يكن أحد قد سمع بعد بأحداث شتنبر، فنبهت العيون إلى مخاطر العنف، وكان في المؤتمر رجال فكر مرموقون من الاتجاه الإسلامي وغير الإسلامي، وكان جواب رئيس المعهد يومها: «أن عندنا من المشاكل كفاية ولا نريد زيادة»، ولا أدري إن كان يذكر كلماتي الآن. وممن اجتمعت بهم رجل فاضل اعتقل لاحقا في أمريكا، وجماعة المعهد الفكري الإسلامي العالمي أظن أن معظمهم غادر أمريكا، بعد المضايقات الشديدة التي تعرضوا لها، وقام يومها حافظ الميرازي الذي لمع في قناة «الجزيرة»، ثم انطفأ فاستضافني في قناته الأمريكية يومها مع المذكور، وأظن أن اسمها كان (ANN)، وكان سؤاله كيف أفهم موضوع سلمان رشدي؟ وكان جوابي: «إننا يجب وضعه ضمن إطار اللاعنف الذي أنادي به، أو ما أسميه شعار العلم والسلم».
ومما أذكر من الستينات ونحن نقرأ كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب، أننا دخلنا في نقاش ضار حول قتال الدولة الكافرة، ومنها نظام البعث في سوريا، ونظام عبد الناصر في مصر، حتى جاء اثنان من السوريين كانا يدرسان الطب في مصر، فرويا لنا الاستعدادات العسكرية لمواجهة النظام الناصري في مصر، وأكدت لي هذا الكلام زينب الغزالي حينما زرتها في مصر، وتأكد لي من كتاب «المعالم» أن الأمر جد وليس بالهزل، فسيد قطب كان يرى أن الفكر يواجه بالفكر، ولكن النظام الكافر ـ ومنه النظام الناصري، حسب وجهة نظره ـ يستخدم الفكر والقوة المادية لصرف الناس عن الحق، ولذا كان من العقل والحكمة استخدام المواجهة الثنائية، المنافقون بالموعظة والكافرون بالفكر والصدمة المادية، والإعداد المسلح لحين شعور التنظيم بالقدرة على قلب نظام الحكم بالقوة المسلح. وأطلق على هذا التنظيم اسم القاعدة الصلبة الواعية، كما ورد الاسم لاحقا في أفغانستان، والذي نقله الظواهري في الأغلب من مصر إلى أفغانستان، ثم العالم جميعا حتى ولدت دولة الخرافة (داعش)!
أذكر هذه الأحداث من أجل الدخول إلى موضوع حساس وغامض للغاية في إطار الثقافة الإسلامية، ففي الغرب نشأت مؤسسات لاعنفية عريقة، وحاليا هناك من يضع قواميس كاملة لهذا الحقل المعرفي، بعد أن نما كاتجاه وكوكب كامل بإحداثيات مغايرة مثل الفرق بين الأرض والمريخ، فالغازات مختلفة والضغط متباين وجو المريخ براد 60 درجة تحت الصفر، والأرض فيها حقول مغناطيسية تسمح بوجود الحياة وتحفظها، والمريخ كوكب ميت، وثقافة العنف موت وقتل، وثقافة اللاعنف حياة وسلام ووئام وحب. وكأن الاثنتين مثل آدم والشيطان، فثقافة السلام روح وريحان وجنة نعيم، وثقافة العنف من مارج من نار، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى