يونس جنوحي
الناس في الأخير يصدقون أي شيء، إذ رغم أن درجة الحرارة في مكة تصل إلى ثلاثين درجة هذه الأيام، إلا أن أغلب الذين تداولوا تسجيلا يوثق لطواف المعتمرين والثلج يتساقط فوق رؤوسهم صدقوا فعلا أن الثلج يتساقط في مكة على رؤوس أناس يرتدون لباس الإحرام. وهذا يعني، منطقيا، أن هؤلاء الناس يجب أن يتجمدوا قبل إنهاء الطواف.
الحماس، وربما الفضول فقط، دفع الناس إلى تصديق المقطع المتداول، إلى درجة أن السلطات في المملكة العربية السعودية اضطرت إلى الخروج لتكذيب الخبر.
وهذا لوحده أمر خطير، إذ اتضح أن الفيديو المتداول عالميا ليس إلا مقطعا مفبركا تم تعديله بتقنية «الفيلترز» رقميا.
وهذا يعني أن السلطات في أي بلد حول العالم سوف تجد ذاتها مضطرة إلى الخروج للتواصل مع الرأي العام لشرح ملابسات مقاطع الزلازل والفيضانات، وربما لتكذيب ظهور أشخاص بملامحهم الحقيقية وربما تعديل تصريحاتهم.
الذكاء الاصطناعي جعل المستحيل يبدو حقيقيا، ومستقبلا سوف يصبح من المستحيل الاعتماد على الفيديو مصدرا للخبر بعد أن أصبح تزويره سهلا بهذه الطريقة التي تجعله يبدو حقيقيا جدا.
كان «الفيديو»، الصوت والصورة معا، مصدرا مقدسا لا يمكن الطعن فيه. تعتمده المحاكم والأنظمة ويُعتبر دليلا قاطعا، تماما كالمشاهدة بالعين المجردة. وربما لو أثير هذا الموضوع قبل عشر سنوات فقط لما صدقه أحد.
صحيح أن هناك مقاطع فيديو مثيرة للجدل عبر التاريخ، لكن لم يصل الأمر إلى درجة التحكم في الطقس والوجوه والتصرفات.
المرة الأولى التي أثار فيها «الفيديو» الجدل في التاريخ، كانت عندما تم توثيق نزول رائد الفضاء الأمريكي «أرمسترونغ» على سطح القمر، إذ تساءل الناس عن سر «رفرفة» العلم رغم أن العلماء أكدوا أنه لا توجد تيارات هوائية في القمر.
ورغم أن النزول على سطح الأقمار والكواكب الأخرى ممكن علميا وتكرر مرات أخرى ووصل حد أخذ عينات وإرسالها إلى الأرض لدراستها والتأكد من وجود آثار حياة ما فوق «المريخ»، الذي يعتبر أبعد من القمر بسنوات ضوئية، إلا أن المشككين في صحة مقطع توثيق أولى خطوات إنسان فوق سطح القمر لا يزالون في ازدياد. إلى درجة أن المؤمنين بنظرية المؤامرة يعتبرون أن المقطع التاريخي تم تصويره في استوديوهات «هوليوود» وأن الولايات المتحدة اضطرت إلى تزوير إنجاز الوصول إلى القمر لهزم روسيا في الحرب الباردة.
بالنظر إلى إمكانيات التصوير في بداية ستينيات القرن الماضي، فإن إخراج فيديو نزول رائد الفضاء الأمريكي فوق القمر يبقى مستحيلا بالمعايير التقنية وقتها. وإلى اليوم، لا يزال موضوع محاكاة حياة رواد الفضاء يتطلب إمكانيات هائلة جدا واستعمال برامج متطورة للغاية لم تكن حواسيب تلك الحقبة قادرة على إنتاجها.
الآن، بعد أن رأى الناس بأعينهم نزول الثلوج في الحرم المكي في درجة حرارة تصل الثلاثين، لا بد أن جملة «رأيته بأم عيني» يجب أن تخضع للتعديل.
المراحل المتقدمة التي وصلها الذكاء الاصطناعي، وتقنيات تعديل المقاطع والتحكم في الملامح ونبرة الصوت وقدرة الحواسيب الحالية على تحريك الصور اعتمادا على بيانات مسبقة تضم معلومات عن الأشخاص المراد «تزويرهم»، كلها حقائق يجب استحضارها ابتداء من اليوم، أثناء تصفح الأنترنت، وإلا فإن الناس سوف يكونون مضطرين إلى تصديق فيديو قد يُظهر مرور قطار فائق السرعة مخترقا مضايق «تيشكا» ويجعل المسافة من مراكش إلى ورززات لا تتجاوز نصف ساعة مثلا.
حتى الذكاء الاصطناعي سيكون عاجزا عن تحقيق هذا «الأمل»، فحتى بعد نزول الثلوج في مكة ستبقى «آمال» أخرى مستحيلة.