ثقافة تحرير العقل
بقلم: خالص جلبي
استفدت من المفكر الجزائري فكرة طورتها أنا في عالم البيولوجيا والطب، وهي قلب مفعول الدواء بالمحافظة على وزنه الذري بتغيير مواضع جذر الهيدروكسيل (HO)، وكذلك الحال في عالم الأفكار فيمكن لأعظم فكرة أن تستخدم في أحط مهمة، وأعظم الناس أن يرتكب أعظم الموبقات، وأفضل الناس إيمانا أشدهم كراهية له قبل أن يدخل فيه، كما عرفنا عن كاتب روماني افتضح أمره في ميونيخ، كانت مهمته خدمة الملعون شاوسيسكو، ونفس الديكتاتور الروماني كان عند ملالي طهران قبل قبره بأربعة أيام فقال له صحفي إن الأوضاع تفور وتمور في أوربا الشرقية، قال: صحيح ولكن الوضع عندنا مختلف، وهي القولة نفسها لفرعون مع تسع آيات بينات، فظلموا بها وكانوا فاسقين، فجعلهم الله مثلا وسلفا للأولين والآخرين. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين.
ومن هذه الأفكار أن أخا فاضلا يرعى مكتبة هامة في عاصمة عربية أرسل يقول إنهم بصدد التفكير وطرحه للنقاش وأخذ الرأي بحذر طبعا عن إمكانية افتتاح ركن للقراءة في كل مطار، بحيث إننا ننشئ بهذه الطريقة القارئ العربي النهم! وبالطبع فالفكرة ممتازة، ولكن ما بال المحتوى؟
فإن كانت الكتب مذهبة الأكعاب، تتكلم في العُرب الأتراب وحوريات الجنة وغلمانها، وفقه المالكية وإدخال القدم اليسرى أم اليمنى بيت الخلاء، وتطويل الثوب والمسواك، ودلائل تحريم الوجه الأربعين، وحرمة قيادة المرأة للسيارة والطيارة لما فيه من الفتنة، مع السماح بملء البيوت من فتيات أندونيسيا وفحول أحراش كيرلا من الهند، فلا بأس به يقول بذلك فقيهنا الشيخ؟ طبعا تبدل الآن على نحو مقلوب ما يذكر بالكاريكاتير. وهو يخضع للحركة البندولية، فتنقلب الحالة من جنون إلى جنون أفظع.
إذا كانت هذه هي نتيجة نشر ركن للقراءة في المطارات، فنكون قد دشنا التخلف أضعافا مضاعفة وعملنا أركانا لأصنام جديدة.
أما إذا نشرنا ذخائر الفكر الإنساني، وتحرير العقل من عصير الفلسفة والفكر النقدي، ورفع الطابو والحرام، وتنشيط الذهن بالروايات العالمية وعبر التاريخ، وتجنب الكذب في مدح العائلات السلطانية وأسرة الرفيق القائد الملهم والأمير المعصوم، والمساهمة في رفع الغل عن الأنثى وتشجيع حضور المرأة بعقلها أكثر من نقابها وغطاء رأسها، واحترام عقل الطفل، والترحيب بالغريب وعابر السبيل من كتاب وشخص وفكرة، وتعزيز فكر عصر النهضة وكيف تخلصت أوربا من الإقطاع والكنيسة، وكيف نتخلص نحن من الطغاة والطاغية والجبت والطاغوت والمشايخ والفقهاء المشترين بالأموال السخية، في إصدار فتاوى تافهة من وعاظ السلاطين؟ هل يفطر بلع الريق وإرضاع المراهق..
إذا انتشرت كتب وقراءة ثقافة مكافحة التعصب والتشدد وليس الإرهاب بأسبرين قوى الأمن، مثل معالجة مريض الملاريا بالأسبرين فيبقى المرض وتنثقب المعدة، فنكون في مشكلة فنصبح في ورطة تهدد الحياة، إذا نشرنا ثقافة تحرير العقل فنكون فعلا قد ساهمنا في مشروع تحريرالعقل من العقل والعقال…
وكثير من المشاريع تبدأ هكذا وتنتهي بكارثة، فليس مثل النوايا الطيبة طريقا للجحيم..
ويقال إن مطبعة جوتنبرغ أول ظهورها استغلتها الكنيسة فنشرت كتب الخزعبلات وأقوال البابوات، ومأثورات بولس ورسائله محرف المسيحية النقية الأعظم، ورؤيا يوحنا اللاهوتية الخرافية من حيوان بثلاث عشرة عين وذنب ديناصور وأسنان الميدوسا الغرغونية.
ثم توالت مصائب المطبعة فطبعت تنبؤات نوستراداموس أيضا محرفة ومزاد عليها، واليوم لها ملايين الأتباع من الحمقى المغفلين يفسرون كل حدث برباعيته، أشد من رباعيات الخيام. وحين سقط البرجان في نيويورك، هرع عباده أن هناك قطعا نصا بذلك، حيث جاءت كلمة المدينة الجديدة ونحن نعلم من اللغة الإنجليزية أن نيويورك تعني الميناء الجديد.
وهكذا فقد تكون المدرسة والمطبعة والجامعة أداة في تكريس التخلف والتعصب والهمجية أكثر من التنوير. لذا أقول إن المشروع في إطاره حلو وفي مرجعه مشجع، ولكنني أعرف ماذا سيحدث وأي الكتب ستنشر. وفكرتي رأيت تطبيقها في مونتريال في بعض المكتبات، حيث تشرب القهوة وتقرأ فإما اشتريت أو مضيت، ولكن قرأت بالتأكيد النافع.
وأقول إذا نشر كتاب جيد على استحياء فسوف تأتي جماعة التعصب والتشدد وتقول كما كان الحال قديما؛ التيل حرام (أسلاك البرق) فهو ينقل أخبارالجن، واللغة الأجنبية حرام لأن الاطلاع على عقائد الكفر كفر، والعلوم حرام لأنها صرف عن علوم الشريعة وآداب الاستنجاء والاستبراء وتخليل الأصابع وفرك الأذنين في الوضوء. وطبعا مثل هذا النغم من التفكير نراه في بعض مناطق التنطع ولا نراه في المغرب مثلا، إلا على نحو محدود، ولكنه أشد انتشارا في دول النفط وهي حاليا تنقلب على رأسها بدون أن تشعر بالدوار.
وكتابي «في النقد الذاتي» بقي لمدة عشرين سنة محاصرا منتقدا عشرين مرة، حتى أفسح عنه الستار فرأى النور، ومن استفاد منه كانوا المغاربة حياهم الله. كما هو الحال في رسالة (الكاهن مسلييه)، الذي تحدث عنه فولتير، الذي لم يستطع نفسه فولتير أن ينشر إلا فقرات بسيطة منه، وكذلك كتاب «العبودية المختارة» الذي كتبه (أتيين دي لابواسيه) عام 1562م، ولم يتجرأ أحد أن يفهم ويكتب مثله عندنا حتى اليوم. فقد عمد الشاب ذو 28 سنة إلى تفكيك آلية الطغيان على نحو خلاق عبقري، ولكن هذا الكتاب الهام لم يدخل الثقافة العربية مترجما وعلى استحياء وسرا ومحصورا إلا بعد 475 عاما، دليلا على ملوحة التربة العربية، وأن ما فعله محمد صلى الله عليه وسلم في كسر الأصنام، لم يترك أثره إلا قليلا، فقد جاءت مناة منتصرة مرة أخرى في ثوب جديد. نافذة:
حين سقط البرجان في نيويورك، هرع عباده أن هناك قطعا نصا بذلك، حيث جاءت كلمة المدينة الجديدة ونحن نعلم من اللغة الإنجليزية أن نيويورك تعني الميناء الجديد