تهويد بأرض البرتقال الحزين
نبيل السهلي
في خطوة تهويدية جديدة، اقتحم الجيش الإسرائيلي مقبرة الإسعاف الإسلامية في مدينة يافا في الداخل الفلسطيني المحتل، صباح الثامن من يونيو الجاري، وقام بتجريفها تمهيدا لإقامة مشروع استيطاني على أنقاضها.
ومقبرة الإسعاف مقبرة إسلامية في مدينة يافا، وهي الوحيدة التي يتم دفن الموتى المسلمين من يافا والمنطقة فيها. يافا اسم كنعاني يعني الجميل أو المنظر الجميل. وتعتبر مدينة يافا إحدى منارات فلسطين، وشكل تاريخها تصويرا حيا لتاريخ فلسطين عبر العصور. فتاريخها يمتد إلى (4000 ق.م). بناها الكنعانيون، وكانت مملكة بحد ذاتها، وغزاها الفراعنة، والآشوريون، والبابليون، والفرس، واليونان، والرومان، ثم فتحها القائد الإسلامي عمرو بن العاص، وخضعت لكل الممالك الإسلامية، إلى أن وقعت تحت حكم الأتراك، ثم الانتداب البريطاني، وبعده نكبة 1948 واحتلال الصهاينة لها وتشريد غالبية سكانها. بلغت مساحة يافا حوالي 17510 دونمات، وقدر عدد سكانها عام 1922 حوالي (47709) نسمة، وفي عام 1945 حوالي (66310) نسمة، وفي عام 1947 (72000) نسمة.
وضمت مدينة يافا سبعة أحياء رئيسية هي: البلدة القديمة، حي المنشية، حي العجمي، حي أرشيد، حي النزهة، حي الجبلية.
تبوأت المدينة مركزا هاما في التجارة الداخلية والخارجية بفضل وجود مينائها. كما قامت بها عدة صناعات أهمها: صناعة البلاط، والإسمنت، والسجائر، والورق والزجاج، وسكب الحديد، والملابس والنسيج. وكانت أيضا مركزا متقدما في صيد الأسماك.
وكانت يافا مركزا للنشاط الثقافي والأدبي في فلسطين، حيث صدرت فيها معظم الصحف والمجلات الفلسطينية، وبلغت مدارس يافا قبل 1948 (47) مدرسة منها (17) للبنين، و(11) للبنات، و(19) مختلطة. وكان فيها أيضا ست أسواق رئيسية متنوعة وعامرة. وكان بها أربعة مستشفيات، وحوالي 12 جامعا، عدا الجوامع المقامة في السكنات. وبها عشر كنائس وثلاثة أديرة.
لعبت مدينة يافا دورا مميزا ورياديا في الحركة الوطنية ومقاومة المحتل البريطاني من جهة، والصهاينة من جهة أخرى. فمنها انطلقت ثورة 1920، ومنها بدأ الإضراب التاريخي الذي عم البلاد كلها عام 1936، ودورها الفعال في ثورة 1936. وقد شهدت يافا بعد قرار التقسيم معارك دامية بين المجاهدين وحامية يافا من جهة، والعصابات الصهيونية من جهة ثانية.
على الرغم من الاحتجاجات التي يقوم بها العرب الفلسطينيون اليافاويون رفضا لتهويد مدينتهم، لم تتوقف عمليات الأسرلة لكافة مناحي الحياة في مدينة يافا، منذ احتلالها في عام 1948.
ويأتي تجريف المقبرة، بعد أن رفضت المحكمة المركزية التابعة للاحتلال في تل أبيب الالتماس، الذي تقدمت به الهيئة الإسلامية المنتخبة في مدينة يافا، لمنع البلدية من المساس بحرمة المقبرة وأموات المسلمين فيها، ووقف إقامة مشروع استيطاني على أرضها، وجاء رفض الالتماس بحجة أن الأولويات لدى المحكمة هي مصلحة الأحياء وتطوير المنطقة والشوارع والبنية التحتية وغيرها، وتبعا لذلك سمحت بلدية تل أبيب بإقامة مبنى استيطاني على أرض مقبرة الإسعاف الإسلامية بيافا، بعد جرف مئات القبور وتدنيس المقبرة، ونقل عظام الموتى إلى مكان مجهول، كما حدث في السنوات الماضية للعديد من مقابر المسلمين في أرض البرتقال الحزين يافا.
وتشهد مدينة يافا داخل أراضي فلسطين 48 عمليات تهويد وتهجير صامت للسكان الأصليين العرب، الذين يواجهون مشاريع تهويد قديمة جديدة، ويسعون إلى إحباطها بالاحتجاجات الشعبية.
وقد ضمت المدينة عام 1950 إلى مدينة تل أبيب وصارت ملحقا مهمشا لها، بعدما كانت الصورة معكوسة حتى النكبة في عام 1948. ويواجه الشباب العرب في المدينة أزمة سكن خانقة، تدفع أعدادا متزايدة منهم إلى مغادرة المدينة نحو مناطق أخرى، هذا إضافة إلى تفشي الجريمة، حيث شهدت مدينة يافا عشرات جرائم القتل خلال السنوات الأخيرة، دون أن تلقي الشرطة القبض على الجناة في معظم الحالات، مما يفقد الأهالي شعورهم بالأمن والأمان.
وللإطباق على مدينة يافا وتهويدها، قررت إسرائيل خلال عام 2009 بيع أملاك اللاجئين الفلسطينيين التابعة رسميا لما يعرف باسم «دائرة أراضي إسرائيل»، في إطار مشروع قانون لخوصصة الأملاك العامة. وأتاح القانون التهويدي الجائر اقتناء أملاك اللاجئين بالكامل، بدلا من اتفاقيات استئجار لمدة 49 عاما، مما شجع المستثمرين على الشراء، وقد رفضت في حينه محكمة العدل العليا التماسا لمنع بيع أملاك اللاجئين.
وتتفاقم أزمة السكن في يافا بشكل متسارع، حيث يقطنها في بداية العام الحالي 2020 نحو (20) ألف مواطن عربي في مقابل (30) ألف يهودي، في ظل ازدياد عمليات إخلاء عائلات عربية من منازل سكنتها عقب النكبة، بموجب اتفاقية استئجار مع السلطات الإسرائيلية، التي وضعت يدها على أملاك اللاجئين الفلسطينيين، فضلا عن ذلك تفضل إسرائيل بيع عمارات وقصور يافا في السوق الحرة إلى الأغنياء، وأغلبية هؤلاء من اليهود، وهذا يعني طرد العرب من يافا وبتهجير صامت، فهم في غالبيتهم الساحقة فقراء، بسبب السياسات الإسرائيلية التهويدية إزاءهم.
ويذكر أنه قد نجا من عملية تهجير أهالي يافا خمسة آلاف من أصل مائة ألف عربي فلسطيني، كانوا يسكنونها حتى عشية نكبة عام 1948.