تقاليد ترامب الخاصة
فاطمة ياسين
تدخلت المحكمة العليا للولايات المتحدة في الانتخابات الأمريكية عام 2000، لوقف عمليات عد الأصوات اليدوي في ولاية فلوريدا، منهية آمال المرشح الديمقراطي، آل غور، بالفوز بمنصب الرئيس.. انقسم المجتمع الأمريكي حينها بالتساوي بين الحزبين الرئيسيين، وتوزعت الأصوات الشعبية بفارق بسيط لصالح آل غور، ولكن النظام الأمريكي الذي يعتمد أصوات المجمع الانتخابي أعطى أفضلية لجورج بوش. خضع الرئيس بيل كلينتون، وسلم مقاليد قيادة أمريكا، بهدوء وسلام، لخلفه بوش الذي استمر ثماني سنوات، قضاها المارينز الأمريكي يجوب العالم في حروب طويلة. عاد الأمريكيون قبل أربع سنوات إلى الانقسام، وظهرت إيديولوجيا البيض بحزب الشاي، وهو لوبي قوي سيطر على الحزب الجمهوري بعض الوقت، وأنتج انتخابات محيرة ومثيرة للريبة، جلبت رجل أعمال لا يملك خبرة سياسية إلى البيت الأبيض، هو دونالد ترامب، وكانت ضحيته هيلاري كلينتون التي اعتقدت أنها أصبحت على عتبة البيت الأبيض، بعد نتائج استطلاعات للرأي كانت كلها لصالحها. وتابعنا تسليم الرئيس باراك أوباما مقاليد الحكم، بسلاسة وهدوء، لخلفه ترامب.
حرص الرؤساء الأمريكيون على مدى تاريخ رئاسة البيت الأبيض، وفي عدة مناسبات، على التأكيد أنهم سيحترمون نتائج الانتخابات، وسيسلمون السلطة بهدوء، وهو التزام بالعقد السياسي المتآلف عليه في دستور الولايات المتحدة، ولم يحدُث استثناء ذو أهمية عبر تاريخ هذه الرئاسة، فصار تسليم المنصب وكل مفاتيح القيادة من التقاليد الراسخة التي يفخر بها الرئيس الجديد، وذاك المنتهية ولايته أيضا. ويعتبر هذا السلوك ممارسة تعطي للدولة العمق المطلوب الذي زاد رسوخا عبر التاريخ. وفي حالة الشك أو التردد، يمكن للمحكمة العليا التي من شأنها الفصل بقضايا من هذا النوع، أن تُصدر حكمها الملزم، وهذا ما حدث في مناسبة الجدل بشأن نتائج انتخابات بوش الابن – آل غور، ورضخ له حتى الخاسر الذي كان يعتقد أنه الأحق بمفاتيح البيت الأبيض، ومنها مفتاح يمكن أن يكون فيه تدمير البشرية، وهو شيفرة الحقيبة النووية.
بدا ترامب، منذ اللحظة الأولى لترشيحه، ذا أطوار غريبة، بسلوكه وتصريحاته، وحتى بفوزه بالمقعد الهام وسط لغط وضجة حامت حول تدخلات مبهمة من روسيا. ولم يتوقف الطور الغريب لسلوكيات ترامب خلال رئاسته، بنقضه معاهدات جماعية كثيرة مع أقرب أصدقائه الأوربيين، ومع أعداء الأمس الروس، ومع أعداء اليوم الإيرانيين، تنكر ترامب لاتفاقيات كثيرة أبرمها رؤساء جمهوريون سابقون. ومنعه خوفه على الاقتصاد من إبداء ردة الفعل اللازمة عند انتشار فيروس كورونا، فرفض ارتداء الكمامة فترة طويلة، في موقف غريب ومتعنت يدفع ثمنه اليوم. وعند انتشار شعار «الأرواح السوداء مهمة»، بعد اختناق رجل أسود تحت ركبة ضابط شرطة أبيض، ابتكر أنصار ترامب شعارا يبدو مضادا، على الرغم من مضمونه الملتبس، وهو «كل الأرواح مهمة»! مارس ترامب سياسة رجل أبيض يشعر بتفوقه، ويرغب بتعميم سنته، وإنْ بالقوة، حتى وصل إلى نقطة حاسمة تهدد أحد أركان الدولة العميقة الأمريكية، وهي تسليم المنصب في حال خسارة الانتخابات!
مؤسسة الرئاسة الأمريكية هي المؤسسة الأولى، وعبرها يجري تحديد السياسات الداخلية والخارجية. أما الوزراء فمجرد سكرتارية عند الرئيس، يستطيع إقالتهم حين يشاء. ويمكنه، إلى حد كبير، أن يفرض ما يريده على مجلسي النواب والشيوخ، في حال كانت الأغلبية من حزبه. ولكن ترامب من موقعه الرئاسي، وقبل لحظة الانتخابات الحاسمة يواجه ارتدادات صحية خطيرة، تهدد موقعه ومكانته، ما يجعل تلميحاته بعدم ترك المنصب في ما لو خسر الانتخابات خالية المضمون، فإصابته بالفيروس الذي طالما استهان به، وهو الذي في الثانية والسبعين من عمره، وهناك خطر حقيقي على حياته، قد تغير مجرى الأمور. أما في حال نجاته فقد تقوضت حملته الانتخابية بشكل كبير، ولن تنفعه المحكمة العليا في حال خسارته، حتى وإن أضيفت إليها قاضية ذات ميول محافظة.