ترشيد القاصرات
جهاد بريكي
أنصحكِ، أقترح عليكِ، أوجهكِ، أرشدكِ، أفهمك، أريك، أوصيكِ. هذه غالبا هي الكلمات التي تصلِني لترشيدي وتوجيهي من مجاهيل لا أعرفهم ولا يعرفونني، لتصويب فكري ونظرتي للواقع وتصوري عن ذاتي وكياني، وذلك فقط لأني طرحت قناعة تخصني أو خاطرة تشغلني. كمية النصح التي أتلقاها تفوق ما خاطب به لقمان الحكيم ابنه وما جاء به الأنبياء كافة لتنوير الأمم. إرشادات ونصائح وتوجيهات وتوصيات لا تنتهي، تتلقاها كل امرأة فكرت بفتح فمها. يوما ما شخص ما أعرف جيدا أنه لم يفتح كتابا طوال الخمس سنوات الماضية، ومصادره العلمية مقهى الحي الكبير، اقترح علي أن أقلل شيئا ما من كتاباتي حتى لا يملني الناس. ربما اعتقد أني فنانة تخاف على وجهها أن يحترق لدى المعجبين لكثرة الظهور، لا مدونة تبوح بأفكار تدور في رأسها على مدار الأربع وعشرين ساعة.
منطق التعامل مع المرأة في عالمنا العربي هو دائما منطق تعامل أب مع قاصر، أستاذ مع تلميذة قاصر، دكتور مع مريضة قاصر، مدرب مع فتاة قاصر..، دائما هو منطق: افعلي ولا تفعلي، منطق النصح والتوجيه، فتعثر عمن لم يكلف نفسه عناء إكمال تعليمه، ولا استغل وقته في تكوين ذاته وتنقيح أفكاره، وقد تجرأ على قامات علمية كبيرة يشهد لها الغرب والشرق، فقط لأنها امرأة..، مرة شهدت نقاشا مع شخص ما ينتقد الدكتورة فاطمة المرنيسي رحمها الله انتقادا لاذعا، سألته، أي الكتب قرأت لها حتى كونت عنها هذا الموقف.. أخبرني أنه لا يقرأ لنساء يحاولن التغرير بالبسيطات من بنات جنسهن. فصمت.
غالبا مواضيع المرأة ما تلقى حساسية وتوجسا كبيرين إذا ما طرحت، تنشأ من خلالها حروب كلامية لا تنتهي وغزوات جاهلية لا تصل لغنيمة. ما أتعس من يتكلم عن المرأة، حتى ولو كانت المرأة نفسها. وعلى الأخص إذا تجرأت هذه الوقحة على تنزيل معاناتها إلى حلبة الكتابة، فمثلا كلنا يعلم أن التحرش يوشك أن يخنق هذا الوطن وقد يستحيل أن تخرج امرأة للشارع دونما سماع كلمة وكلمتين من متحرش ما، كلنا نعرف هذا ونعيشه ونخبره. لكن العار كل العار أن تحولي تجربة التحرش لكلمات، أو مقال، أو فيديو، أو خاطرة. تكونين حينها شننت حربا على قيم البلد وثوابت الأمة ومقدسات الوطن وتبشرين بالتفرقة والتفسخ الأخلاقي وتغررين بالنساء. وقد يدفعك كل ذلك لتجنب الحديث عن أي موضوع يخص المرأة، ولو كان بسيطا، ولو شجعتها على إتمام دراستها والبحث عن الشغف الذي يغير حياتها، فالأمر قد يحولك لنسوية شريرة متربصة حربائية تعادي الجنس الآخر وترغب بالقضاء عليه. في حين أنك لا ترين في نقاش مواضيع النساء سوى واجب يحتمه عليك جنسك وما تعيشينه كل يوم.
التعامل مع قضايا المرأة يشبه إلى حد كبير التعامل مع مقود السيارة، وتوجيهه بحسب الوجهة المرادة، مرة في اتجاه المحافظة والالتزام ومرة في اتجاه التحرر والانفلات. وذلك بحسب التركيبة العقلية للمنظر.
تتعالى الأصوات حول ما هو أفضل شيء بالنسبة لها، الحجاب، أم السفور، العمل، أم البيت، الدراسة، أم الحرفة، الزواج، أم العزوبية، الإنجاب، أم تحديد النسل. كل يختار لها، وعنها، ولأجلها. هي الوحيدة التي تنتظر القرار وتصفق له. تجلس على أريكة مخملية تنتظر وتنتظر، قرارا يخصها هي وحدها من طرف آخر لا يكاد يفقه في النساء سوى ما حكته له أمه، أو ما قرأه عنها في كتاب تقليدي أو جريدة فضائحية، أو في حالات عديدة ما خبره خلال فتوحاته المجيدة.
منطق الأستاذية في التنظير لما يساعد المرأة ويحررها، هو أسوأ منطق يمكن اللجوء إليه والتعامل به، لأننا حينها نكون بصدد إلغاء ذات حرة، وتحويلها لقاصر لا تفرق بين الجيد والسيئ، النبيل والحقير، الحق والباطل، الحقيقي والزائف.
هو نزع لأب الحقوق وسيدها، وهو الحرية في الاختيار، في تحديد الوجهة، أنت تسوق عنها وتحملها عواقب الطريق، فأن تختار لها الحجاب هو تماما نفس الشيء كأن تختار لها السفور، القرار ناتج عنك لا عنها، وأن تختار لها البيت تماما كأن تختار لها العمل، قرارك لا قرارها. وجهان بئيسان لعملة واحدة، عملة تجاوزها التاريخ ولا تصلح لشراء حتى قطعة خبز متعفن.
رؤية المرأة وقضاياها من فوق برج عال، وتقزيم قضاياها لمجرد تغيرات المزاج خلال الدورة الشهرية، وتحويل النقاش حول حقيقة معاناتها اليومية في الشارع والعمل والمرافق الحيوية ومواقع التواصل إلى رغبتها في التجديف ضد تيار القيم والعادات.. كل ذلك لا يخدم المرأة وبالتالي لا يخدم المجتمع ومنه نصل إلى الخلاصة التي نعيشها اليوم، نساء تائهات، لا بوصلة ولا إرادة، فإما مقاتلات يقررن القرار ويندمن عليه بعدما تشرع جميع الأسلحة في وجوههن. وإما مسالمات ينتظرن من يختار عنهن ويصفق لهن ويمنحهن تأشيرة مجانية لنمطية قاتلة. وأجيال تنتج عنهن أشد منهن تيها وخيبة.
المرأة وتر حساس يغريني بالعزف عليه، رغم أن أنغامه لا تكون دائما شجية، فقد تكون سبا وتحقيرا، وقد تكون اختراقا للخصوصية ونبزا وتلفيقا وقد تكون بحثا عن معلومات شخصية يدار حولها نقاش ميتافيزيقي كبير. وقد تكون تعاطفا وشفقة، غير أن المعزوفة كلها جديرة بأن تلقى آذانا صاغية. وهذا مربط الفرس.