شوف تشوف

الرأي

ترسيم الحدود بين السعودية ومصر.. من الخاسر ومن الرابح؟

يجب الاعتراف بأن الأسرة الحاكمة في المملكة العربية السعودية، ورغم الأراضي الشاسعة التي تسيطر عليها في شبه الجزيرة العربية، بما في ذلك آلاف الجزر في البحر الأحمر والخليج العربي، إلا أنها تسعى دائما للاحتفاظ بكل شبر أرض يقع تحت سيادتها، وتسعى في الوقت نفسه لضم المزيد من «أراض»، أو «جزر»، أو «واحات» في دول الجوار، حتى لو كانت موضع نزاع، سواء بقوة السلاح أو المال.
نقول هذا الكلام، الذي قد يفاجئ كثيرين، بمناسبة حالة الجدل المتصاعدة حاليا في أوساط سياسية وقانونية مصرية، بعد الإعلان عن توقيع اتفاق بين الحكومتين المصرية والسعودية بترسيم الحدود البحرية ينص على أن جزيرتي تيران وصنافير في مدخل خليج العقبة سعوديتان، وأن دور مصر فيهما هو توفير الحماية.
القيادة السعودية تتحرك دائما في توقيت محسوب بعناية فائقة، وتقتنص الفرص الملائمة لها، لحسم القضايا الحدودية موضع الخلاف مع دول الجوار، سواء كانت خليجية أو يمنية أو مصرية.
المقصود بالفرص الملائمة، هو ضعف هذه الدول المعنية سياسيا أو عسكريا أو اقتصاديا، وحاجتها الماسة للمال والدعم الاقتصادي، وتجنب الحروب، ووجود قيادات على رأسها يمكن الضغط عليها ومساومتها لتقديم التنازلات على صعيد الأراضي أو الجزر أو الواحات، بما يلبي مطالب وشروط الطرف السعودي.
لنأخذ اليمن مثالا، فبعد حصار اليمن اقتصاديا، وطرد السلطات السعودية أكثر من مليون يمني كانوا يعملون لديها، ويتمتعون بامتيازات عديدة من بينها حق الدخول والعمل في المملكة، ودون الخضوع لشرط «الكفيل»، عقابا لليمن على معارضة حكومتها العدوان الأمريكي على العراق عام 1991، وتوقيعها اتفاق الوحدة التاريخي بين الجنوب والشمال، وساهمت هذه الخطوة السعودية في إحداث أزمة يمنية اقتصادية طاحنة، لأنها فاقمت من أزمة البطالة بإضافة حوالي مليون عاطل، وحرمت حوالي مليون أسرة على الأقل من تحويلات هؤلاء المالية، الأمر الذي عطل الدورة الاقتصادية وأحدث شللا فيها، وخفض قيمة الريال اليمني أكثر من مئة في المئة، وفاقم من معاناة 25 مليون مواطن.
في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية المتدهورة ضغطت السلطات السعودية على الرئيس اليمني علي عبد الله صالح بكل الطرق والوسائل لإجباره على ترسيم الحدود وفق تصوراتها، والقبول بخط 19 الذي يعطيها مساحة واسعة من الأراضي، وليس على أساس خط 17 الإنجليزي، الذي كانت تصر عليه الحكومة اليمنية، علاوة على ما نجحت، أي السعودية، في قضمه من مدن وقرى على طول الحدود يؤكد اليمن أنها تابعة له، حسب ترسيم الحدود الانجليزي في الجنوب.
الأخطر من ترسيم الحدود، وحصول السعودية على ما تريد من أرض، هو تنازل الرئيس اليمني عن اتفاقية الطائف التي كانت تنص على «استئجار»، وليس امتلاك السعودية، لمدينتي جيزان ونجران، وأجزاء من إقليم عسير، لمدة مئة عام انتهت مدتها بعد عام 2000، وأصبحت المدينتان سعوديتان رسميا، ولم يعد لليمن أي حق للمطالبة بهما، مقابل مساعدات مالية سعودية، واستيعاب حوالي مليون عامل يمني، وفازت السعودية بالأرض وترسيم الحدود، ولكنها لم تلتزم بالشق الاقتصادي من الاتفاق، إلا جزئيا، الأمر الذي أحدث مرارة وشعورا بالخذلان لدى اليمنيين ترجمته الحرب الحالية، وتمسك الحوثيين باسترجاع المدينتين وتوغلهما في الأراضي السعودية أكثر من مرة.
زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز الحالية إلى القاهرة، وما تمخضت عنه من اتفاق على ترسيم الحدود البحرية، جاءت في توقيت «ذكي» للغاية، وبعد ضغوط نفسية عديدة على الجانب المصري لدفعه للتنازل عن الجزيرتين المذكورتين آنفا، فحكم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يواجه أزمات اقتصادية طاحنة، ويحتاج إلى 43 مليار دولار لسد العجز في ميزانية العام الحالي فقط، مثلما يواجه أزمة ديون خارجية وبطالة عالية تزيد عن 30 بالمئة، مضافا إلى كل هذا، تدهور في قيمة الجنيه المصري، وتوتر أمني في صحراء سيناء، وخطر خسارة حصة مصر من مياه النيل (56 مليار متر مكعب سنويا) أي أكثر من ثلثي المياه، بسبب سد النهضة الذي تقيمه إثيوبيا لتحويل مجرى النهر، تحت ذريعة توليد الكهرباء وبدعم من اسرائيل.
في ظل هذا الوضع الاقتصادي المصري المنهار، تحركت السلطات السعودية في التوقيت المناسب وفتحت ملف الجزر المتنازع عليها مع مصر في البحر الأحمر، ولوحت بمساعدات بقيمة 20 مليار دولار في حال وضع الرئيس السيسي، أو رئيس وزرائه شريف إسماعيل، توقيعه على اتفاق نهائي في هذا الصدد، وهذا ما حصل.
لن نناقش هنا الجوانب التاريخية والقانونية والسيادية التي تتعلق بالجزر وملكيتها، فهذا الجدل متروك للخبراء المصريين، الموالين والمعارضين، مثلما هو متروك أيضا لـ«البرلمان» المصري للتصديق أو عدمه على الاتفاق، مثلما ينص الدستور المصري، ولا يخامرنا أدنى شك بأن «سلق» هذا الدستور وكذلك والاستفتاء الشعبي عليه، والتعجيل بالانتخابات البرلمانية الحالية، كلها جاءت من أجل التوصل إلى هذا الاتفاق مع السعودية لإغلاق الملف الحدودي بصورة نهائية، مقابل ملياري دولار سنويا، وإقامة «جسر الملك سلمان» والحصول على استثمارات بحدود 20 مليار دولار.
البرلمان سيصادق حتما على هذا الاتفاق، لأن الغالبية الساحقة من أعضائه من الموالين للرئيس السيسي، وإذا كانت هناك معارضة فهي شكلية ومستأنسة، ومحدودة العدد، وأدوار بعض قياداتها مرسومة من قبل النظام، وربما متفق عليها مسبقا، اللهم إلا إذا حدثت معجزة وقرر الرئيس السيسي نتيجة ضغط شعبي إلغاء الاتفاق المتعلق بالجزر لامتصاص هذا الضغط، واستخدامه كذريعة، وهذا احتمال ضئيل للغاية.
مشروع بناء جسر بطول ستين كيلومترا فوق البحر الأحمر يربط بين مصر والسعودية مفيد للبلدين، وسيفتح أفقا أرحب للتعاون الاقتصادي وتنشيط التجارة البينية، وتوظيف عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل في الجانبين، وخاصة في منطقة التجارة الحرة في الجانب المصري في سيناء، الأمر الذي سيضخ مليارات الدولارات في الخزينة المصرية، وبما يحسن أوضاع سكانها (سيناء) الذين يزيد عددهم عن 400 ألف مواطن أهملتهم الحكومة المركزية في القاهرة لعقود، وشككت في هويتهم الوطنية وولائهم للدولة المصرية، الأمر الذي دفعهم إلى ممارسة أعمال «محرمة» وخارجة عن القانون، مثل التهريب والانخراط في صفوف جماعات إسلامية متشددة، ترفع السلاح بالتالي في وجه السلطات، وتمارس كل أنواع القتل والتدمير.
«الذكاء» السعودي لا ينحصر في سياسة فرض الأمر الواقع، واستغلال ضعف الآخر، وإنما في ربط «التنازل» عن الجزيرتين الخلافي مع مشروع بناء جسر الملك سلمان الذي يحظى بتأييد الكثيرين في مصر لفوائده الاقتصادية الجمة، أي مثل مقوله «رفع سعر القطة وتخفيض سعر الجمل شريطة أن يتم بيع الاثنين معا».
الاتفاق البحري أعطى المعارضة المصرية، و«الإخوانية» منها بالذات، «ذخيرة» حية في معركتها ضد النظام بعد أن خفت صوتها في الفترة الأخيرة، فـ«الأرض» تعتبر قضية مقدسة في الذهنية المصرية، وتعود جذورها إلى أكثر من سبعة آلاف عام، وأذكر أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (صاحب الهوى المصري) كان من أكثر الناس فهما لهذه الحساسية الوجدانية، ولذلك رفض رفضا باتا أن يمتد مدرج مطار رفح الجوي بضعة كيلومترات في سيناء، بسبب محدودية مساحة قطاع غزة (150 ميلا مربعا بطول 40 كيلومترا فقط)، وأصر على أن يكون هذا المدرج بالكامل داخل حدود القطاع تجنبا لأي مشاكل، أو حساسيات مع الأشقاء المصريين.
ربما من السابق لأوانه إصدار أي أحكام من جانبنا حول هذا الاتفاق، سلبا أو إيجابا، في ظل الاحتفالات الضخمة في الجانبين الرسميين المصري والسعودي، لأن شهادتنا مجروحة، وكل ما نستطيع أن نفعله الآن هو أن نتضرع إلى الله أن يكون حظ الأشقاء المصريين أفضل كثيرا من حظ الأشقاء اليمنيين، ومن قبلهم الإماراتيين (واحة البريمي وحقل الشيبة وشريط العديد)، والكويتيين (المنطقة المحايدة)، والبحرينيين (حقل السعفة) والقطريين (مخفر الخفوس)، ولا نقول أكثر من ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى