«تحررنا!» .. مدارس أم سجون بالمغرب
عند حلول العطل الأسبوعية والأعياد والمناسبات الوطنية، والعطل الموسمية، خاصة في فصل الصيف، تترقب العائلات المغربية بفارغ الصبر إيصاد أبواب المدارس والجامعات قصد تحرير الجماهير الطلابية لمدة معينة من قيود المؤسسات التعليمية وأعبائها التي تقتضي تحصيل المعرفة والعلم. وعادة ما تستهل العطل الموسمية، كإجازة الصيف، بالتلذذ بالترفيه والاستجمام، خصوصا بالنسبة للعائلات الأكثر حظوة، أما أولئك الذين يقبعون في أسفل الهرم الاجتماعي، ويقاسون من أجل البقاء، صامدين تحت وطأة ضيق العيش وضنكه، فتجدهم يسيحون بحثا عن وظائف موسمية من تجارة متجولة، وحراسة سيارات أو أماكن ترفيه، إلى بيع خدمات متنوعة.
تتمثل عطلة الصيف في الذهنية الثقافية المغربية باعتبارها فترة استراحة مؤقتة تستمتع بها الذات الاجتماعية، وتتخلص أثناءها من كدح السنة الدراسية وعنائها، حيث تبتعد عن عالم الكتب، وتنخرط في تقاليد الفرجة والاستجمام. ويبدو عالم المعرفة والعلم من خلال هذا التوصيف، وكأنه نقيض لعالم الترفيه، إذ أن الواحد منهما قد ينفي وجود الآخر، مع العلم أنه من الممكن لهما أن يكملا بعضهما البعض، وأن يتواجدا مجتمعين في فصل الصيف.
وفي هذا الصدد، تتبادر إلى الأذهان عدة أسئلة حول مفهوم «العطلة» في السياسة التعليمية التي تتبناها الدولة: كيف ينظر إلى مزاولة القراءة والبحث وتحصيل المعرفة في مستوى البنيات الماكروية الفوقية؟ هل حقل المعرفة مرتبط بغلاف زمني وتوقيت إداري محدد؟ هل يجب ضبط ميدان المعرفة بفصول واستعمالات زمنية معينة خلال السنة؟ هل المدرسة مؤسسة إدارية عادية مرتبطة بتوقيت الإدارة المغربية وعطلها، حتى توصد أبوابها أيام العطل؟
إذا انطلقنا من النظرية العلمية القائلة إن الذات الاجتماعية تتبنين وتتشكل وتتطبع بتأثير البنيات والهياكل المؤسساتية التي تتحضنها، حيث تتحكم في اختياراتها، وترسم مساراتها، فينبغي أن نطرح السؤال: ما هي التمثلات والسلوكيات التي تنتج عن عدم وجود مكتبات عمومية في معظم جهات المملكة، وعن إقفال أبواب مكتبات المدارس والثانويات، إن وجدت، ومكتبات الجامعات في وجه كافة الشرائح الاجتماعية، بما فيها شرائح الطلبة والأساتذة أيام العطل وأثناء فصل الصيف؟
لا تستغرب عزيزي القارئ حينما ترى أوروبياً يحمل كتابا على شاطئ البحر، أو في مقهى، أو على متن قطار، لأنه تطبع على الكتاب كرفيق له مدى الحياة، وترعرع في بيئة ثقافية تتخذ من السعي وراء المعرفة أسلوب حياة، إذ لا يلقن العلم في محيطها على شكل معرفة تقنية متخصصة مسيجة بجدران مؤسساتية وبغلاف زمني محدود فقط، بل يتجاوز ذلك ليضم بنيات تحتية ضخمة وموارد اقتصادية تسخر لنشر المعرفة، وتوضع تحت رهن إشارة هذا المواطن المرفه لكي ينخرط في مجالاتها عند مزاولة أنشطة حياته اليومية.
في هولندا مثلا، تفتح المكتبات العمومية أبوابها طيلة السنة في وجه عامة الشعب، بالإضافة إلى التلاميذ، والطلبة والباحثين باختلاف مشاربهم، وتجد مكتبات عمومية ضخمة في المدن مجهزة بمطاعم وكافيتريات وأكشاك، وقاعات ترفيه، وقاعات المحاضرات، وقاعات الجلوس، إذ تحتضن العضو الاجتماعي، وتشغل وقته في البحث والتحصيل، وتستقطب يوميا وافدين جددا بشتى الطرق، نذكر منها تنظيم محاضرات وأنشطة ثقافية، ومعارض فنون تشكيلية، وحفلات موسيقية راقية.
وفي المقابل، ببلد كالمغرب تنخر أحشاءه الأمية، وتعاني منظومته التعليمية من العزوف عن المطالعة، ناهيك عن أعطاب صادمة أخرى يعاني منها القطاع، يصير من العبث أن تغلق أبواب مكتبات الجامعات، ومداخل حفنة محسوبة على رؤوس الأصابع من المكتبات عبر التراب الوطني خلال فصل الصيف، وأحيانا في عطل موسمية أخرى، وكأن المطالعة والبحث عمل روتيني يرتبط بتوقيت إداري، إذ أن الأفكار، عزيزي القارئ، حسب هذه السياسة المتبعة، تواظب على حمية إدارية، ولن تزور ذهنك إلا في أوقات العمل الرسمية. نحن نعلم جيدا أن عالم الأفكار سيل من فيض لا تقويم زمنيا له، إذ يغمرك تدفق من الأفكار دون سابق إنذار، كما ترتبط المطالعة والكتابة بطقوس خاصة تتطلب فضاءات مهيأة لهذا الغرض تفتقر إليها جل مدننا، ولا يعقل أن يستمر معظمنا على تطبع / هابتوس يتمثل في مطالعة النصوص وتدبيجها على موائد المقاهي أو على مائدة الأكل، كما يفعل الكثير منا مستأنسين بترانيم صمام طنجرة الضغط التي تغلي تحت لهيب نيران الطبخ.
يجب على أصحاب القرار في قطاع التربية والتعليم، وعلى الذين يقومون برسم «السياسات الثقافية الكبرى» في هذا البلد، إدراك عبء المسؤولية الملقاة على عاتقهم، إن هم استمروا في تجاهل التقهقر المعرفي الذي تعاني منه الفئات الاجتماعية المتمدرسة. إن طالب العلم والمعرفة لا يتوفر على أجندة إدارية محددة، خصوصا وأنه يعيش في بلد يتداخل فيه الواقع المادي بالقدر، ولا يستطيع المرء ترتيب برنامج حياته حتى على مدى اليوم، فما بالك على مدى الأسبوع أو الشهر أو السنة كما هو الحال في دول أخرى. إن فتح أبواب هذه المؤسسات وتجهيزها بالكامل، وتشييد أخرى، وخلق فرص لتشجيع الأعضاء الاجتماعيين على المطالعة، سيساهم بلا شك في دعم الهوية الاجتماعية المتمدرسة وتعزيز رصيدها المعرفي، لأن مثل هذه البنيات التحتية تهيئ الأجواء، وتستقطب الناس للتدافع نحو الاطلاع والبحث والمعرفة.
إن ما نراه الآن من توزيع لمعرفة مؤسساتية موسمية مسيجة بغلاف زمني يتقاضى الأستاذ عليها أجرا، وترتكز على تلقين مهارات وكفايات خاصة لتمكين المستفيد من الالتحاق بسوق الشغل وكسب رزق عيشه اليومي، ثم انتهى الأمر، لن تؤتي ثمارها إن لم تدعم بالمعرفة العامة، والتي يجب التقعيد لها وإنشاء بنية تحية لإنتاجها، حتى يستطيع الفرد الانخراط في بناء مجتمعه في كافة المجالات. لا أظن أننا سذج حتى نتوقف عند المعرفة التقنية دون توسيع دائرة الموارد المعرفية التي يمتح منها طالب العلم، لأننا اليوم وأكثر من أي وقت مضى أمام إفلاس عدد كبير من النخب السياسية، وفي حاجة ماسة ليس فقط لنخب تتوفر على مهارات وتقنيات في مجال تخصصاتها، بل إلى فكر متنور يحمل مشعل المعرفة، وينشر الوعي السياسي والثقافي بين ثنايا وأركان المجتمع البعيدة.
ونطرح هنا تساؤلا بلاغيا حول الجدوى من التركيز على المعرفة التقنية وإهمال المعرفة العامة: هل تستطيع المعرفة التقنية المتخصصة أن تنتج مثقفا عضويا يساهم في بناء المؤسسات المدنية منها والسياسية؟ لا يجدر بنا أن نعول كثيراً على المعرفة التأهيلية لسوق الشغل لبناء مشروع مجتمعي نرفع به تحدي العصرنة، وذلك لأن أبسط شروط المواطنة في المجتمع الحديث تقتضي منا توسيع دائرة معارفنا والاطلاع في مجالات متعددة تشمل جوانب مختلفة من الحياة المعيشة، ونكاد نجزم أن إنشاء مشروع للمطالعة والبحث، باعتباره بنية مؤسساتية في مجتمعنا تؤسس لأسلوب حياة جديدة، سيشكل لدينا ذلك الشيء الصلب الذي يمكننا العودة إليه لمواءمة محيطنا مع متطلبات الحداثة السائلة .