تحت جلباب وطربوش الملك
خرج إدريس البصري من إقامته عند نخلة زعير في الرباط، كان يرتدي بذلة عصرية، ولما حل الظلام شوهد يخطب في منصة البرلمان، مدثرا بجلباب ناعم أبيض، ويضع على رأسه طربوشا من غير قياسه.
أين ذهب ذلك المساء، وماذا حدث؟
نحن في شهر رمضان، في الشارع والمنتديات السياسية تململت أسئلة ترضي بعضا وتزعج آخرين، هل صحيح أن وزراء حزب الاستقلال في حكومة كريم العمراني التي كانت شكلت في نونبر 1983، قدموا استقالاتهم؟ تناسلت علامات استفهام، وخيم شبح أزمة حكومية في الأفق.
كانت الحكومة ذاتها التي ضمت الاستقلال والحركة الشعبية استبدلت حضور وزراء تجمع الأحرار بغريمهم الحزب الوطني الديمقراطي، لكن من دون أن ينتج عن ذلك أي»اضطراب»، فبعض الأحزاب لا يعدو أن يكون مؤثثا في مشهد، كان يراد له أن يكون كذلك، كل طرف قابل للشطب، غير أن وضع حزب الاستقلال كان مغايرا في المعادلة.
ما ساعد في تنامي الشكوك أن وزراء في الاستقلال، في مقدمتهم علال الفاسي ومحمد بوستة ومحمد الدويري، كانوا انسحبوا عام 1962 من الحكومة. ولم يبق من الوجوه البارزة في التنظيم سوى أحمد بلافريج وزيرا في الخارجية، تماما كما تمسك عز الدين العراقي بمنصبه في وزارة التعليم، ثم رقي إلى الوزارة الأولى، من دون أي دعم حزبي.
انفجر الاستقلاليون غضبا، على إثر الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية التي حاز فيها الاتحاد الدستوري على أزيد من ثمانين مقعدا في ظروف اتسمت بتزايد الانتقادات ضد تزوير إرادة الناخبين، وبدأت تلوح في الأفق معالم أزمة، لولا أن إبعاد مناصري محمد بوستة كان مطلوبا بحسابات خلط الأوراق.
كشف الملك الحسن الثاني ضمن ما روي عنه أنه بصدد الاجتماع إلى قيادة الاستقلاليين لاستكناه حقيقة الموقف، كان يقود سيارته بضعة دقائق قبل آذان المغرب، فقد كان يروق له القيام بجولة في شوارع العاصمة التي تخلو من المارة في ذلك الوقت، التفت إلى إدريس البصري الذي كان إلى جانبه ودعاه إلى الالتحاق بالقصر الملكي رفقة المستشار أحمد رضا غديرة.
على وجه التقريب، خالجت البصري نوايا قلقة إزاء تطورات محتملة في الموقف السياسي، غير أنه اعتبر أن دعوة المستشار غديرة مهندس المشهد الجديد، قد تخفف من وطأة الأحداث، فقد كان يحتمي بردائه عندما تدلهم الأجواء. كما كان يعاكسه، إذ يتمدد نفوذ وزارة الداخلية في كل الاتجاهات.
كانت العلاقة بين الرجلين أشبه بتعايش اضطراري، وفيما كان غديرة يرى أن إضافة المزيد من المسؤوليات إلى الوزير البصري تساعد في توسيع هامش الخطأ لديه أمام تعاظم المهام وثقل المسؤوليات، كان البصري يناور للحد من نفوذه، متى تهيأت له الفرصة، وإن لم يخف دائما إقراره بأن غديرة كان من أفضل وزراء الداخلية الذين تعاقبوا على المسؤولية.
مساء، استدعى الحسن الثاني آراء الوزير البصري والمستشار غديرة، حيال ما سمعه من قيادة الاستقلال الذين عرضوا إلى وقائع بالظروف التي مرت فيها الاستشارة الشعبية، في غياب حياد الإدارة. هل كان يريد أن ينفض يده مما علق بتلك الانتخابات من شوائب، أم أنه سعى إلى أن يدفع بمساعديه للدفاع عن أنفسهم في مواجهة الانتقادات.
يقول إدريس البصري إن الملك الحسن الثاني أمره بأن يتوجه إلى البرلمان لوضع الرأي العام في صورة تلك التطورات.كانت تلك طريقته في توزيع وتحديد المسؤوليات، وهو القائل إن الرجل هو الأسلوب، ما يرسخ الاعتقاد بأنه كان يرغب في تحويل البرلمان على علاته وهفواته إلى ساحة الحوار. لذلك لم يكن غريبا أنه غضب يوما حيال تدني مستوى النقاش ووصف البرلمان بأنه تحول إلى سيرك.
يرفض البصري الإفصاح عن كل ما دار في ذلك الاجتماع، ويكتفي بالإشارة إلى أن الملك نصحه بأن ينقل فكرة أن كل شيء مستباح في السياسة إلا التوريث.
ذلك المساء، نزل البصري من سيارته، يتأبط الأوراق والملفات كعادته دائما، وكان لافتا أنه يرتدي جلبابا أبيض أقل اتساعا ويضع على رأسه طربوشا أحمر لا يتناسب وحجم رأسه، لكنه بدا مزهوا ومنشرحا وهو يخطو نحو منصة البرلمان.
كما في عناده الذي فندته الوقائع والمعطيات تحدث عن نزاهة وشفافية الانتخابات، وعما يصفه بالتزام الإدارة الحياد. لم يكن يهمه أن يقنع أحدا بوجاهة كلامه،كان يؤدي دوره على خشبة المسرح، حتى وإن خرج عن النص أو زاد من عنده كلاما خارج السياق.
انقضت سنوات على تلك الواقعة المشهودة. عاد الاستقلاليون إلى المعارضة ونسجوا علاقات جديدة وحليفهم الاتحاد الاشتراكي. تغيرت أحداث ومعطيات أسهمت إلى حد كبير في عودة الوفاق التاريخي بين المعارضة والقصر.
في جلسة مصارحة، أخبرني إدريس البصري وقد أمعنت في السؤال، عن حقيقة ما حدث ذلك المساء، بأن الملك الحسن الثاني أشار إليه أن يرتدي جلبابه وطربوشه ويتوجه إلى البرلمان، وكان مما قاله: إن رأسك يا إدريس «قاسح وغليظ»، فاستره بطربوش ملك البلاد.