د. خالد فتحي
تأبى رسائل جلالة الملك إلا أن تكون سباقة لمعالجة القضايا التي يضيق بها صدر المغاربة، ومن ضمن ذلك رسالته البليغة، أول أمس الأربعاء، إلى البرلمان بمناسبة الذكرى الستين لتأسيسه.
لم تكن هذه الرسالة ذات لغة خشبية، ولا رسالة تغن بالديمقراطية وبفضائلها، بل جاءت سردا مكثفا لما راكمه المغرب لبلوغ الديمقراطية من إنجازات دستورية ومؤسساتية مما لا ينبغي إنكاره أو تبخيسه، ودرسا بالخصوص يهم فضيلة النقد الذاتي التي آن للبرلمان أن يتحلى بها كما لم يسبق له أن فعل من قبل.
هذه الرسالة حلت في توقيت مناسب جدا، نظرا إلى ما يتابعه الرأي العام من أحداث وقضايا فساد، لتشكل دعوة صريحة من الملك إلى البرلمانيين والمنتخبين كي يُحَاسِبُوا أنفسهم قبل أن يُحَاسَبُوا، ولأن يزنوا أعمالهم قبل أن توزن عليهم، حتى يحافظوا للمغرب على ما تم إنجازه على درب الديمقراطية التمثيلية والتشاركية، ويمحوا أيضا هذه الصورة القبيحة التي أخذت تتسرب إلى المخيال الشعبي عن البرلمان والمؤسسات المنتخبة ككل بوصفها تحولت سلما ينتهزه البعض للاغتناء غير المشروع والإثراء دونما سبب غير الفساد والإفساد.
لقد كشف الملك في خطابه المركز عن اللب الحقيقي للديمقراطية التي يستحقها المغاربة من نوابهم، والتي يتمناها لهم عاهلهم، فهي ليست كما نفهم من رسالة جلالته مجرد مساطر وتصويتات واستحقاقات تكشف لنا أين توجد الأغلبية، فذاك شكلها أو غلافها ليس إلا، والذي لا يعوض ولا يغني عن جوهرها وروحها اللذين تجسدهما الأخلاق الديمقراطية التي تعني باختصار استحقاق ثقة الناس خلقا وكفاءة وعلما وأمانة أولا، والوفاء لهم بالعهود ثانيا. أي المزاوجة بين شرعية الانتخاب وشرعية الإنجاز.
ولذلك أرشد الملك البرلمان إلى ضرورة أن يلتفت لتعديل التمثلات التي صارت للمواطنين عن الوظيفة النيابية، بأن يشرع ويحصن نفسه هذه المرة بمدونة أخلاقيات تكون موجهة وملزمة لنواب الأمة.
إنه حين يجهر جلالته بملحاحية الرفع من جودة النخبة البرلمانية والمنتخبة، فهو يومئ إلى أن الديمقراطية ترضع قيما وأخلاقا ومبادئ في كنف الأحزاب التي عليها أن تنتقي جميعها أفضل وأكفأ المرشحين للمؤسسات، حتى تكون أمام المواطنين ومنذ البداية خيارات ليس من بينها أن يختاروا «وبطريقة ديمقرطية» بين فاسد وغير كفؤ، وفي أحسن الحالات أن «تفرز لهم أصواتهم» محتكرا للفعل الحزبي، أو طاردا للكفاءات. بمعنى أن نعود إلى الوضع الذي لا يشعر فيه المواطنون بأن من صوتوا عليهم بكل حرية لا يمثلونهم ولا يشبهونهم.
هكذا سوف يتحدث جلالته عن الديمقراطية بوصفها ليست وصفة تستورد، بل بكونها تراكما وتدريبا جماعيا وخبرة وبناء يتم بشكل تدريجي ومتواصل، مما يفيد بأن جودة النخبة البرلمانية تبدأ من جودة الأحزاب، فداخل هذه الأخيرة يتم اختيار اللبنات الأولى التي ستأتي بعد ذلك لتشييد الصرح الديمقراطي للبرلمان. وفيها يتخلق ذاك المزاج السياسي النقي الذي سينتقل ليعم باقي المؤسسات، فالديمقراطية ليست غلبة أصوات يتم تجميعها بوسائل عدة مشروعة أو غير مشروعة، بل هي غلبة وانحياز مجتمعي عن بينة وتبصر وإرادة لمدرسة فكرية مذهبية ينضوي تحتها البرلماني الذي اقتنع وأقنع ببرامجها. هذا الجو البرلماني وقبله الحزبي يقتضيان أولا عودة المثقف إلى السياسة، وانزياح التافهين والفاسدين عنها.
هكذا لا يعود البرلماني بهذا المعنى رجلا متغلبا بماله، ونفوذه، وأحيانا كثيرة بشبكاته وفساده، بل فاعلا سياسيا حاملا لرؤية مجتمعية ولتصورات تهم مختلف مناحي حياة من صوتوا عليه… فاعلا مناطا به نشر قيم الديمقراطية وترسيخ دولة القانون. وهو ما يستوجب أن لا يؤهل البرلمان سوى المتشبعين الراسخين في الديمقراطية، فالبرلمانيون هم قدوة ونموذج، وعليهم أن يعطوا المثال في أنفسهم بأن ينتصروا لدولة القانون ليس في تشريعاتهم فقط، وإنما كذلك في سلوكهم وأعمالهم، وفي ذمتهم المادية والمعنوية. والبرلماني الجيد هو ذاك الذي يُشَرِّعُ انطلاقا مما توحيه له الثقافة والفكر والمعرفة والكفاءة والمصلحة العامة والبرنامج والاستراتيجيا، وليس خدمة للوبي ينتمي إليه.
إن البرلمان المغربي في مأزق، وفي وضع إخفاق أخلاقي شديد في ما يخص الترويج لصورة ناصعة عنه كصانع للتنمية ومشرع جدير بصياغة قوانين تحكم حياة المغاربة، بعضها مصيري يتطلب نبعا تشريعيا صافيا، شفافا، ونقيا كي يقبلوها ويلتفوا حولها، وجلالته قد مده (البرلمان) بمفتاح يسعفه في قراءة الأسباب الحقيقية لإخفاقه هذا وتلمس طريق الخروج منه، وهو أن يظهر بإهاب جديد من خلال تخليق العمل البرلماني، والتنزه عن المصالح والحسابات الضيقة، لأجل تعزيز الثقة في المؤسسات. فالمواطنون كادوا يصلون إلى الدرجة القصوى من الإحباط الذي تولده لديهم أمية بعض البرلمانيين، وفساد بعضهم الآخر، وجثوم آخرين على صدورهم لعقود، بل واتخاذهم للبرلمان سكنا عائليا للزوجات والأبناء.
حق على البرلمان إذن بعد هذه الرسالة أن يطلق عاجلا بداخله حوارا واسعا يمده إلى الأحزاب وإلى النقاش العمومي، وأن يدخل بسرعة في عملية تحول ومراجعة تعيد إصلاح وبناء مفهوم البرلماني الذي تضرر كثيرا من بعض النماذج والممارسات. وإلا سنكون أمام موت البرلمان في أحلام الناس…. على الأقل موته المعنوي والرمزي وإن استمر رواده يدخلون ويخرجون منه وإليه، ويتناكفون، ويتنابزون، ويتبجحون بالنضالات الخاوية.