تاريخ التنقيب عن الثروات المعدنية بالمغرب
منقبون قُتلوا في سبيل البحث عن الذهب بفاس والشمال
«جدّي توجه إلى المغرب سنة 1889، وكان وقتها قد غادر عمله في الشركة الفرنسية، وحكى لي أنه تلقى عرضا في جنوب فرنسا، لكي يشتغل على بناء أساسات منجم في حقل للتنقيب عن المعادن في منطقة من التلال المجاورة لعاصمة المغرب «فاس»».
الكلام هنا لأحد أحفاد المنقبين الأوائل عن الثروات المعدنية في المغرب، والذي جاء إلى المغرب في فترة حكم المولى الحسن الأول.
كتب هذا الرجل، وهو حفيد المستكشف، المهندس توماس فان، سنة 1973 متحدثا عن تجربة جده في مقال من أرشيف كتاب العائلة، وتناول هذه المغامرة كما رواها له جده، قبل وفاته، والتي تسلط الضوء على مجال ما زالت ملامحه غير واضحة.
يونس جنوحي
+++++++++++++++++++++++++++
المنقبون الأوائل عن المعادن نصارى قُتلوا على يد رجال القبائل
من بين أقوى الأدلة على أن الإنجليز سبقوا بقية الجنسيات الأجنبية في مجال استكشاف المعادن في المغرب، ما كتبه مواطن بريطاني – يهودي مغربي حاصل على الجنسية البريطانية حتى نكون أكثر دقة- عندما أصدر كتابا، في فترة حياة المولى الحسن الأول، كما سوف نرى في هذا الملف، وعنونه بـ«الثروات المعدنية في المغرب» وقدمه كمرشد لاستكشاف المغرب، ووضعه بين أيدي الباحثين والمغامرين والمهندسين، ليس في بريطانيا فقط وإنما في أوروبا كلها.
سبق أن أعددنا ملفا خاصا في «الأخبار» عن حياة هذا التاجر اليهودي المغربي الذي اتُهم بالجاسوسية في فترة من الفترات، خلال فترة حكم المولى الحسن الأول، قبل وفاته سنة 1894. لكن هذه هي المرة الأولى التي نولي فيها اهتماما خاصا لعمليات التنقيب التي لم يكن كتاب أفلالو سوى بداية بسيطة لها، لأن المراحل التي تلت فترة وفاة المولى الحسن الأول، كانت انطلاقة حقيقية لعمليات التنقيب في المغرب، وقادها مهندسون وموظفون حكوميون من بريطانيا، ثم فرنسا.
الدور الذي لعبه أفلالو تمثل في إرشاد الباحثين لكي يتعرفوا على جغرافيا المغرب. وقد قال في كتابه، متحدثا عن احتمالات وجود ثروة معدنية في المغرب، إن أحد الفرنسيين كان بصدد اكتشاف وجود معادن مهمة في الجنوب المغربي، لكنه قُتل على يد الفلاحين عندما اكتشفوا وجوده بطريقة مريبة في المنطقة، وخلف الحدث رعبا كبيرا في أوساط الأجانب الذين كانوا يعرفون أن الفلاحين لا يتسامحون بخصوص وجود «نصارى»، فوق أراضيهم، وهكذا نقل موسى أفلالو هذا التخوف ليطلع عليه كل المهتمين الإنجليز باستكشاف المغرب، واضعا بين أيديهم خارطة كبيرة عن احتمالات وجود معادن مثل النحاس والفوسفاط على امتداد التراب المغربي. العادة أن يقوم الجواسيس بهذه المهمة.
ولم يكن أفلالو هو الوحيد الذي أشار إلى قضية مقتل المنقبين الأجانب الأوائل عن المعادن في المغرب، فقد نقلت صحف بريطانية وفرنسية وحتى الصحف إيطالية بعض الأخبار عن حوادث اختفاء وتعرض أجانب لهجوم في نواحي مدينة فاس، التي كانت مسرحا لبعض عمليات التنقيب في فترة حكم المولى الحسن الأول، وتدخل وزير مغربي اسمه بلمختار، وسوف نأتي إلى دوره في هذا الملف لاحقا، لكي يوفر الحماية لبعض المنقبين الذين لجؤوا إلى القصر الملكي، قبل بداية عمليات التنقيب، حتى لا يكون مصيرهم مثل مصير من سبقهم، خصوصا وأن هجوما بعينه أثار الرعب في نفوس الأوروبيين. فقد كانت مدينة فاس في يونيو سنة 1879، مسرحا لعملية اهتزت لها الجاليات الأوروبية التي كانت تستوطن المنطقة الدولية في طنجة، عندما وصل خبر مقتل خمسة مواطنين أجانب، بريطانيون وإيطاليون، على يد رجال قبائل غاضبين كانوا بصدد إنجاز خريطة طبوغرافية في تلال فاس، حيث وجدوا صباحا في خيامهم بالقرب من حقل اشتغالهم مقتولين، وكانت جثتان فقط بدون رأس، واتضح أن الغاضبين الذين نفذوا العملية أخذوا الرأسين للتمثيل بهما وبث الرعب في نفوس الأوروبيين. ورغم تمسك الدبلوماسيين الأجانب في طنجة بضرورة حماية رعاياهم أثناء توغلهم في المغرب خلال العمليات الاستكشافية، سيما التنقيب عن المعادن، إلا أن المغامرين البريطانيين لم يُثنهم ما وقع، واستمر المهندسون والمغامرون في التوافد على المغرب للبحث عن المعادن النفيسة والأحجار الكريمة، قبل كل من النفط والغاز اللذين لم تبدأ عمليات التنقيب عنهما إلا في وقت متأخر.
مغامرات التنقيب بالمنطقة الشرقية دون علم الفرنسيين
يعرف الباحثون المغاربة أن أشهر وأول مستكشف فرنسي للمغرب هو الباحث الفرنسي «إدمون دوتي»، والذي لم يكتف برصد المعالم الاجتماعية لحياة المغاربة والتعريف لأول مرة بما كان يعرف بـ«المحاكم العُرفية»، وإنما قدم أيضا إشارات إلى احتمال وجود ثروات معدنية في المغرب، بل وشكل بحثه الذي مولته الحكومة الفرنسية من الجزائر، والذي كان سابقة في الفترة ما بين 1890 و1900، ثورة بالنسبة إلى المنقبين الفرنسيين عن المعادن.
لكن الكتابات التاريخية، البريطانية على وجه الخصوص، أكدت أن البريطانيين سبقوا الفرنسيين إلى عمليات التنقيب، حتى قبل أن يفكر إدمون دوتي في المجيء إلى المغرب.
والسبب راجع إلى أن حكومة بريطانيا وتجارها الكبار استفادوا من العلاقات التاريخية الوطيدة، خصوصا في مجال الاتفاقيات التجارية بين المغرب وبريطانيا، والتي تعود إلى فترة حكم السعديين، أي قبل انطلاق الدولة العلوية. فقد كان بعض التجار ممن يملكون فروع شركاتهم في ميناءي الصويرة والجديدة ولديهم وكلاء في مدينة فاس، يعرفون جيدا أن عمليات التنقيب سوف تكون مثمرة، سيما وأن من بينهم من راكموا ثروات ضخمة -غير خاضعة لأي ضرائب- بفضل التنقيب عن المعادن في المستعمرات البريطانية في إفريقيا الغربية والجنوبية.
أما في المغرب، فقد كان مستكشفون بريطانيون وراء عمليات تنقيب في المنطقة الشرقية للبلاد، وفي غرب مدينة فاس، عاصمة المملكة وقتها، في فترة حكم المولى الحسن الأول ما بين سنتي 1873 و1894، وهي الفترة التي عرفت بعض عمليات التنقيب على يد مهندسين بريطانيين، بعضهم قدموا وعودا لأعضاء في حكومة الحسن الأول، خصوصا الحاجب باحماد الذي أصبح في ما بعد صدرا أعظم، بجعل المغرب يكسب أموالا طائلة من وراء عمليات بناء مناجم والتنقيب والحفر بحثا عن المعادن النفيسة.
أما مناجم الفحم فقد جاءت متأخرة، وسيطر عليها الفرنسيون. لكن مناجم المعادن، خصوصا الذهب، فقد كان الإسبان قد تفوقوا فيها، سيما في منطقة وجدة وصولا إلى الحسيمة ومنطقة الريف عموما، واستغلوا وجودهم خلال حرب الريف ما بين سنتي 1921 و1927 وصولا إلى استقلال المغرب سنة 1956، لإطلاق شركات للتنقيب المنجمي في جبال الريف، وهي الشركات التي بقي بعضها مستمرا في التنقيب حتى استقلال المغرب، وكانت مملوكة لأثرياء إسبان وبعضهم من أقارب الجنرال فرانكو أو وزرائه المخلصين.
وأغلب هذه العمليات لم تكن فرنسا، التي تحتل المغرب بموجب معاهدة الحماية سنة 1912 تعرف عنها أي شيء، بحكم أن أغلبها انطلق قبل فرض الحماية، ولم يكن أصحابها مستعدين للتعاون مع الحكومة الفرنسية، أو جعلها تستفيد من عائدات التنقيب عن المعادن الفرنسية. لكن فرنسا لم تقف مكتوفة اليدين، وأطلقت حملات واسعة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، للتنقيب عن «الكنوز المغربية»، والدليل أن فرنسا ما زالت تتوفر إلى الآن في متاحفها على حفريات من الحضارة الرومانية، كلها اكتُشفت على يد منقبين فرنسيين في منطقة طنجة والعرائش، وجرى تهريبها من المغرب إلى فرنسا، وأحاطت بها إشاعات عن كون المهندسين والمنقبين قد سرقوا كميات مهمة من الذهب والمعادن النفيسة التي عثروا عليها أثناء عمليات التنقيب عن الآثار، والتي لم تكن سوى غطاء عن العمليات الحقيقية التي تمثلت في التنقيب عن الذهب والأحجار الكريمة، في جبال منطقة الغرب، ما بين العرائش والرباط، وصولا إلى الدار البيضاء.
أما في مناطق عبدة ودكالة والجديدة، فقد كانت عمليات التنقيب محفوفة بالمخاطر، على اعتبار أن قبائل هذه المناطق قادت ثورة كبيرة ضد الفرنسيين وحالت دون انتشار فرق الاستكشاف، خصوصا أثناء ثورة 1907 التي قُتل فيها مئات الفرنسيين والإسبان، واضطرت فرنسا معها إلى التدخل عسكريا.
++++++++++++++++++++++++++++
بلمختار.. وزير عُهد إليه بإنقاذ المغرب من الإفلاس
في سنة 1894، مباشرة بعد وفاة المولى الحسن الأول، بدأ يتضح لكبار رجال المخزن أن المغرب يتجه فعلا نحو الإفلاس، بسبب مشاكل جمع الضرائب، وحالات العصيان، بالإضافة إلى انقلاب عدد من ممثلي المخزن وتفضيلهم مراكمة الضرائب لصالح حسابهم الخاص، بدل الإدلاء بها للدولة. ناهيك عن رفض عدد من التجار أداء ما بذمتهم للدولة، رغم تهديد الموظفين المخزنيين لهم بالعقاب في حال الامتناع، لكنهم فضلوا أن يصبحوا محميين من طرف دول أجنبية، ويصبحوا بالتالي بمنأى عن «يد» المخزن.
ولم تكد سنة 1901 تحل على المغرب، حتى أصبح الوضع كارثيا من الناحية الاقتصادية أكثر من أي وقت مضى.
وهنا بدأ الوزير بلمختار، الذي اختاره المولى عبد العزيز باتفاق مع وزراء آخرين كانوا يمثلون النخبة التي يثق فيها السلطان الشاب، خصوصا بعد إعفاء المهدي المنبهي ومغادرته فاس.
لم تكن مهمة بلمختار سهلة، فأول مشكل واجهه هو التفاوض مع التجار المغاربة الذين كانوا يحملون جوازات سفر أجنبية، وكانوا يُسمون تاريخيا «المحميين»، ولم يكونوا يترددون في نصب أعلام أجنبية فوق أبواب منازلهم، في أغلب المدن المغربية، وأبرزها فاس والصويرة والجديدة وحتى الرباط. وهكذا فقد كانت الأعلام السويدية والإيطالية والألمانية والبريطانية ترفرف فوق منازل مغربية، إعلانا من أصحابها عن تحديهم للمخزن.
ورغم الصداقات التي كان يربطها أغلب هؤلاء التجار مع وزراء مغاربة، إلا أنهم امتنعوا عن أداء ما بذمتهم من ضرائب وديون مستحقة للمخزن. حتى أن بعضهم بنوا ثروتهم بفضل المخزن، إذ سبق لهم الاستفادة لسنوات من العقود الاحتكارية التي منحها لهم السلطان الحسن الأول، والتي بموجبها كان كل واحد منهم ينفرد بتزويد السوق المغربية بالسلع، أو تصديرها من السوق المغربية نحو الخارج. ورفضوا في الأخير أداء المُتفق عليه لصالح خزينة الدولة المغربية.
الدور الريادي الذي لعبه الوزير بلمختار، أنه استطاع أن يصبح صديقا لعدد من التجار المغاربة، مسلمين ويهود، ممن كانوا يملكون فروع شركات في أوروبا. وبفضل هؤلاء التجار، استطاع الوزير بلمختار أن يتحدث مع وزراء الدول الأجنبية في منطقة طنجة الدولية، لكي يحصل منهم على معلومات بخصوص حجم تجارة بعض التجار الكبار، في أوروبا، وبفضل تدخل هؤلاء الوزراء استطاع بلمختار أن يجمع عائدات مهمة لصالح خزينة الدولة.
لكن أكبر إنجازات الوزير بلمختار، وكان سنة 1901، أنه توصل بمعلومات تفيد بأن المخزن المغربي يمكنه الاستفادة من الثروات المعدنية التي تتوفر عليها البلاد، وبفضل جلساته المطولة مع هؤلاء التجار وممثلي الدول الأجنبية في المغرب، اقتنع الوزير بلمختار بأن المستقبل سوف يكون واعدا إن اهتم المغرب فعلا بالتنقيب المنجمي.
ورغم أن البدايات الحقيقية للعمل المنجمي لم تبدأ إلا مع فرنسا وتداعيات معاهدة الحماية أو قبلها بقليل، إلا أن منقبين حلوا في المغرب، وبعضهم كان الفضل للوزير بلمختار في تسهيل الطريق أمامهم، وبدؤوا أولى أشغال التنقيب وتحديد ما تزخر به مناطق المغرب، وذلك من خلال تنظيم رحلات استكشافية لهؤلاء المنقبين والعلماء والمهندسين، وكان المخزن المغربي ممثلا في الوزير بلمختار يوفر لبعض هؤلاء ما يحتاجونه في سفرهم داخل المغرب، ويوفر لهم أيضا الحماية الأمنية الضرورية لتنقلهم.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد كان الوزير بلمختار وراء صفقات مع بريطانيا خصوصا، تمكن المغرب بموجبها من إنقاذ البلاد من حملات وباء شديدة ومجاعات، بفضل استيراد دواء للقضاء على الجراد، كان له فضل كبير في إنقاذ الزراعة وتجنيب المغرب السقوط في مجاعة أخرى، كانت لتعمق من مشاكله مع بداية القرن الماضي.
سكك الحديد.. مشاريع «ضخمة» مهدت لعمليات التنقيب
أول التحديات التي صادفت المُنقبين الأجانب في المغرب بمختلف جنسياتهم، مع بداية القرن الماضي، تتعلق بصعوبات نقل معدات الحفر ونقل العينات لفحصها، سيما وأن بعض عمليات التنقيب تتطلب نقل العينات بحرا إلى بريطانيا للاشتغال عليها والتنبؤ بما يمكن أن تزخر به المناطق المغربية من خيرات، انطلاقا من عمليات فحص التربة.
ولم يكن هذا كله ليتحقق لولا سكك الحديد التي أنجزت في السنوات اللاحقة، لنقل العينات والمُستخرجات.
لكن أكبر العراقيل التي صادفت الشركات الأجنبية التي بدأت عمليات التنقيب الكبرى في المغرب، هو الغارات التي سقط فيها ضحايا أجانب، والاختطافات التي قادها بعض زعماء القبائل، لمطالبة الدول التي يحمل المستكشفون جنسيتها بالفدية.
وحكى الشريف الريسوني، الذي حكم منطقة الشمال أيام الحرب ضد إسبانيا، عن عملية أنجزها زعيم قبيلة اسمه علي بلمودن، واستهدف فيها عمالا إسبان كانوا يشتغلون على مشروع بناء السكة الحديد. الريسوني حكى الواقعة للمستكشفة البريطانية روزيتا فوربس، والتي سجلت تفاصيلها على لسانه، كالآتي: «لقد كان هو الذي اختطف «لينتيسكو»، مهندس سكة الحديد، واحتفظ به أسيرا لأشهر، لأن الشركة رفضت أداء الفدية. كان مع المودن خمسة عشر رجلا، وترك نصف هذا العدد لتوفير الحراسة خلال عملية انسحابه.
ومع من تبقوا معه، ظهر فجأة وسط مخيم المهندسين بالقرب من تيزنيت، واعتقل لينتيسكو. لم يحدث قتال كبير، لأن المغاربة الذين كانوا يعملون في أشغال إنشاء السكة، بعضهم هرب، بينما الآخرون بقوا يتفرجون على المشهد. قُتل إسبانيان، وأصيب لينتيسكو بجروح طفيفة. كان عملا عظيما، لأن المُختطَف قد هُرّب بسرعة عبر البلاد الخاضعة لإسبانيا، دون أن يجرؤ أحد على إنقاذه.
طلقات متفرقة وقليلة لاحقت الفرسان، لكن استداروا وردوا عليها بحزم، وأصابوا عددا من عمال سكة الحديد بجروح.
بعد ذلك غادروا في سلام، وذهبوا مباشرة إلى «هاريكس»، حيث تم حبس الإسباني في منزل. كان يعتقد أنه بئيس جدا، فقد كان لديه القليل فقط من الضوء، ولم يكن لديه سرير لينام عليه، باستثناء بعض الأكياس».
يحكي الريسوني أن المُختطف قد جاء إليه ليخبره بما أقدم عليه، لكن الريسوني، حسب ما صرح به للسيدة فوربس، نصحه بإعادة الإسباني وإطلاق سراحه، خصوصا وأن إسبانيا رفضت تماما التفاوض، وبدا أنها لم تكترث لحياة المسؤول عن مشروع السكة.
في بعض الكتابات الأخرى، كان هناك كلام عن حوادث مميتة تعرض لها المستكشفون الإسبان الأوائل الذين اشتغلوا على مشاريع مماثلة باتفاق مع سلطات المخزن، لتسهيل نقل ما يتم التنقيب عنه، وتصديره بحرا إلى خارج المغرب، مقابل أموال تُدفع لصالح المخزن.
يوميات سوداء لمنقبين عن الذهب ضواحي فاس
كانوا أربعة فقط، وهم «جاك، توماس فان، إدوارد لندن، وجوناثان». توماس فان كان العقل المدبر للمجموعة، وسبق له أن اشتغل مهندسا في لندن ما بين سنتي 1858 و1883. وبعد سنوات على مغادرته وظيفته التي كان يشغلها مع شركة هندسة معمارية في لندن، توجه إلى فرنسا، حيث اشتغل مع شركة خاصة على إنشاء مجموعة من المنشآت العمرانية في جنوب فرنسا، قبل أن يتلقى عرضا بالتوجه مع مغامر بريطاني هو جاك، لكي يساعده على تصميم أساسات الحفر لمباشرة التنقيب، في المغرب.
كتب حفيد السيد توماس فان، سنة 1973 متحدثا عن تجربة جده في مقال من أرشيف كتاب العائلة: «جدّي توجه إلى المغرب سنة 1889، وكان وقتها قد غادر عمله في الشركة الفرنسية، وحكى لي أنه تلقى عرضا في جنوب فرنسا، لكي يشتغل على بناء أساسات منجم في حقل للتنقيب عن المعادن في منطقة من التلال المجاورة لعاصمة المغرب «فاس».
حكى لي جدي أيضا أنه تعرف على أعضاء مجموعة التنقيب، وكانوا ثلاثة بريطانيين، في مارسيليا، وركبوا البحر صوب شمال المغرب من ميناء المدينة، واستغرقت منهم الرحلة قرابة أسبوع كامل.
انتقلوا إلى فاس بمعية أحد مساعدي وزير مغربي سابق، بعد أن وفر لهم موكبا مؤمنا جدا، ووصلوا إلى فاس، لكي يلتقوا مع موظف من القصر الملكي، وأخبره جاك بتفاصيل العملية التي ينوي تنفيذها، وعرض عليه جدي تصميما أوليا للشكل الذي سوف يبدو عليه المنجم إن كانت العينات تُشجع على مواصلة التنقيب في المنطقة.
(..) قضى جدي هناك قرابة ثمانية أشهر، وتوقف العمل كليا، بسبب موسم الأمطار الغزيرة التي شكلت تهديدا كبيرا لعمليات الحفر، مخافة سقوط الجدران الطينية فوق رؤوس العمال. إذ كان العشرات من أبناء المنطقة يشتغلون نهارا في الحفر، ويتقاضون أجورهم من قائد المنطقة، ولم يكن «جاك» مضطرا إلى أن يدفع لهم أي شيء.
خلال موسم الأمطار بدأ مرض معد ينتشر بين الحفارين المغاربة، ومات خمسة منهم في ليلة واحدة، بسبب الحمى، فقرر جدي الابتعاد عن المنطقة، خوفا من أن تكون الكوليرا القاتلة وراء وفاتهم، ولم يعد جدي مرة أخرى إلى فاس لمواصلة التنقيب، فقد اختلف مع جاك حول تفاصيل تقنية، وقرر أن يتقاضى أجرته ويغادر إلى لندن».
هذه القصة، رغم أنها لا توفر معطيات دقيقة بخصوص طبيعة العملية، التي بدا واضحا أنها كانت باتفاق بين القصر وقائد عملية التنقيب، بعكس عمليات أخرى شهدها المغرب، كان وراءها مُنقبون مرتزقة لم يكونوا يتورعون عن إخفاء ما يحصلون عليه من عمليات التنقيب، وكان بينهم فرنسيون وإسبان بالدرجة الأولى، ثم بريطانيون. وهؤلاء كانوا يمارسون التنقيب سرا، ومنهم مغامرون اعتادوا الاشتغال بالطريقة نفسها في إفريقيا الجنوبية، وحصلوا على أرباح خيالية من بيع الذهب والأحجار الكريمة التي كانوا يحصلون عليها من وراء التنقيب السري في غرب وجنوب إفريقيا، وأرادوا تكرار التجربة ذاتها في المغرب.
غراهام كونينغهام.. أول من كتب للإنجليز عن ثروات المغرب
بفضل إلمامه بعالم التأليف، ومهمة التمثيل الدبلوماسي لبلاده، فقد كان السيد غراهام الرجل المناسب لتقديم أول كتاب عن ثروات المغرب وطبيعته الجغرافية إلى الإنجليز، الذين كانوا وقتها يفكرون بجدية في احتلال المغرب وضمه إلى الإمبراطورية الكبيرة للتاج البريطاني، حدث هذا أواخر القرن التاسع عشر.
البريطانيون عهدوا بتأليف الكتاب إلى تاجر يهودي مغربي اسمه «موسى أفلالو»، كان قد غادر المغرب قبل سنة 1880، وقرر الاستقرار نهائيا في بريطانيا أيام المولى الحسن الأول، وفعلا استطاع أن يبيع خبراته عن بلاده للبريطانيين، وقدم لهم معلومات لا حصر لها عن احتمال وجود ثروات منجمية ومعدنية في المغرب. يقول غراهام، أثناء تقديمه لكتاب «موسى أفلالو»، إن مهمة الاطلاع على الكتاب قبل تقديمه لم تكن صعبة بالنسبة إليه، لأنه يعرف المغرب جيدا، أو هكذا اعتقد. فقد تحدث بدوره، أثناء تقديمه لـ«الحقيقة بخصوص المغرب»، عن ذكريات عاشها بين وزراء مغاربة وتجار وحتى بسطاء، جعلته يفهم الإنسان المغربي عن قرب، في الوقت الذي كان فيه السواد الأعظم من المغاربة ينظرون إلى «النصارى» بكثير من الغضب الرافض لفكرة وجود كل ما هو أجنبي.
أعطى التاجر أفلالو صورة تجارية عن المغرب، ورسخها لدى البريطانيين. إذ تحدث عن الوزير باحماد، وقال إنه رجل سياسي خبير وعارف بأصول المعاملات الدبلوماسية والتجارية، وشجع على التعامل معه في مشاريع مستقبلية.
وطبعا، فإن أفلالو في زياراته إلى المغرب بصفته مواطنا بريطانيا، كان على اتصال وطيد بالوزير المغربي القوي. ولم يقف عند هذا الحد، بل وضع خارطة واضحة لخيرات المغرب، ووضع أيضا احتمالات لمباشرة عمليات التنقيب عن المعادن، وقدم إرشادات للشخصيات التي يجب الاتصال بها في كل منطقة، للوصول إلى أفضل النتائج. ولم يجد عنوانا أنسب لكتابه من هذا العنوان: «الحقيقة بخصوص المغرب»، وكان فعلا كتابه يقدم مجموعة من الحقائق العلمية التي يمكن استغلالها اقتصاديا لصالح بريطانيا.
ولم يقف عند الثروات المعدنية وحسب، بل قدم إشارات عن الثروات الزراعية، وأعطى أمثلة بأنواع الزراعة التي يمكن أن تثمر جيدا حسب المناطق. وهذه كلها معلومات قيمة جدا، لا يمكن أن تُعطى هكذا بدون مقابل.
في الرسالة التي بعث إليه بها الوزير بن عبد الله، وصفه بالتاجر، وكانت الرسالة ضمنيا تعترف بمغربيته، لكن بن عبد الله خاطبه فيها كواحد من أصحاب الامتيازات، أو كواحد من الدبلوماسيين الأجانب الذين صادقوا المغرب وأصبحوا مستشارين له بالخارج، والداخل أيضا.
في صفحات الكتاب التي تتجاوز الثلاثمائة، كان موسى أفلالو يحكي بدون انبهار، كما لو أنه يتحدث عن حقائق يعرفها مسبقا ولم يسع إلى اكتشافها، كما هي عادة المستكشفين والمغامرين الذين كتبوا عن المغرب، قبل موسى وبعده أيضا.. في صفحات الكتاب، كانت هناك الكثير من الرسائل المضمرة عن المغرب، فمثلا كان موسى أفلالو يتحدث عن المولى الحسن الأول بكثير من الإعجاب، وقال إن الإنجليز كانوا يقولون عند الحديث عن الحسن الأول «بارك الله في عمره»، ووصفوه برجل الحكمة. وهذا الأمر لوحده يبقى صادما في الحقيقة، لأن عددا من المراجع تحدثت عن جفاء كبير للمولى الحسن الأول للأجانب، حتى أن بعض المؤرخين ذهبوا للقول إن سياسة المولى الحسن الأول هي التي جعلت الأجانب ينطلقون في صياغة التكهنات والمواقف المغلوطة عن المغرب. لكن موسى أفلالو، بصفته عارفا بخبايا الإنجليز، قال عكس ذلك تماما.