تاريخ… الأوراق المنسية لأحداث دجنبر الأسود وناج يروي تفاصيل حصرية
«أثناء المظاهرة، كان الرصاص يمر بجانبي. كنتُ يافعا جدا ومتحمسا، وكنا جميعا نتقدم في المظاهرة رغم أن القمع بالرصاص كان في تزايد. رأيت المئات يسقطون بالرصاص بعد أن يصابوا مباشرة في الرأس أو الصدر. كما أن عدد الجرحى كان كبيرا جدا. هناك من أصيبوا بجروح بالغة لأن الرصاص أخطأ إصابتهم في مقتل، وجرحوا في البطن أو الفخذ. ونزفوا بشدة. لقد رأيت الموت بشكل جلي في ذلك اليوم. المهم. انخرط الشبان في سحب الجرحى وجثث الموتى أيضا، وهنا أريد أن أشير إلى الدور البطولي الذي لعبته بعض النساء داخل الكاريان. لقد كانت لديهن الشجاعة لتضميد جراح المصابين، رغم أن تعليمات البوليس الفرنسي كانت صارمة وتوعدوا، من خلال المقدمين والقياد، بعقاب كل من ضُبط وهو يساعد الجرحى. بقينا على تلك الحال طيلة المساء واستمررنا في نقل جثامين المصابين والشهداء إلى حدود الخامسة صباحا. تصور أن أغلب الشبان لم يناموا نهائيا في تلك الليلة، فقد كانت الأوامر لرجال البوليس تقضي بإطلاق النار وقتل كل من يتحرك في الشوارع والأزقة. المهم أن تلك الليلة كانت تاريخية بكل المقاييس. وعاشها سكان الكاريان بكثير من الترقب، إذ كان داخله مسجد تحول إلى مكان لإبعاد الموتى عن الأنظار. قضينا نحن الشباب الليلة في نقل الجثث». الكلام هنا للمختار الزنفري، أحد الذين عاشوا مأساة دجنبر 1952 عن قرب. يستعيد الذكرى في حوار حصري خص به «الأخبار».
الأوراق المنسية لأحداث دجنبر الأسود..
كيف بدأت أحداث 7 و8 دجنبر 1952؟ من الذي حرض العمال وفقراء حي كاريان سنطرال الذي كانت شعبية الملك الراحل محمد الخامس به كبيرة جدا، لكي يخرجوا ضد حدث مقتل النقابي التونسي فرحات حشاد؟
عندما اشتعلت الأحداث في تونس، وصلت شرارتها إلى المغرب. منذ 5 دجنبر والخبر «يلوكه» المذياع، بينما الصحافة الفرنسية بقيت متحفظة على الموضوع حتى لا يحدث أي تعاطف بين المغاربة والتونسيين، لكن ما كانت تخشاه الإدارة الفرنسية وقع بالضبط. لكن من الرؤوس المدبرة لقيادة الاحتجاجات في سياق ذلك الحدث؟
يقول قادة حزب الاستقلال إن علال الفاسي هندس للمخطط رفقة المهدي بن بركة وآخرين. بينما يذهب فريق آخر، من المدافعين عن أمجاد مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وعلى رأسهم عبد الرحيم بوعبيد، إلى القول إن الأخير لعب دورا كبيرا في تلك الوقائع.
سباق، لا تخطئه العين بين سطور ما دُون حتى الآن عن أحداث كاريان سنطرال، التي مات فيها عدد كبير من المغاربة لا تتوفر إلى اليوم أرقام رسمية عنه. الفرنسيون إدارة وأمنا لم يتمكنوا من الوقوف على الرقم الحقيقي لعدد الجثث، التي دفنت على أيدي الوطنيين دون معرفة هويات أصحابها. والوطنيون لا يعرفون بالضبط عدد الذين استشهدوا بين يومي 7 و8 دجنبر، لأن الأوامر الأمنية للفرنسيين كانت واضحة: الإجهاز على كل من يتحرك في محيط الكاريان، بعد مظاهرة الاحتجاج على اغتيال فرحات حشاد.
لنعد الآن إلى الوراء بالأحداث. ما وقع أن القيادة النقابية المغربية التي كانت قبل تأسيس الاتحاد المغربي للشغل، والتي كان ينشط بها كل من: محمد التيباري، محجوب بن الصديق، الذي صار زعيما لأول نقابة بعد الاستقلال، وقضى بها عقودا طويلة من تدبير العمل النقابي منذ الاستقلال إلى حدود تسعينيات القرن الماضي. صالح المسكيني، ثم الطيب بوعزة الذي عين بعد الاستقلال سفيرا للمغرب بالسويد. هذا الرباعي كان هو النواة الأولى التي كانت متعاطفة جدا مع حزب الاستقلال والحركة الوطنية، وتولت نشر أفكارهما في صفوف العمال الذين كانوا يقطنون في كاريان سنطرال داخل البراريك.
اعتمدوا على شبان متحمسين على الأرض، والذين كانوا بمثابة العضلات التي تنفذ توجيهات القيادة. كان أحدهم هو المختار الزنفري الذي كان في سنوات شبابه الأولى، دون العشرين بكثير، وهو واحد من الأحياء القلائل الذين عاشوا في قلب زوبعة تلك الأحداث الدامية، وخصنا بحوار في الموضوع رغم أنه فضل دائما الابتعاد عن الأضواء.
أما عبد الرحيم بوعبيد، فقد تولى نشر مقالات تدعو إلى التظاهر والإضراب على خلفية تلك الأحداث، ولعب دورا رياديا كبيرا من الناحية الإعلامية والتنظيمية أيضا.
كيف تطورت الأمور إذن لتتحول إلى مجزرة حقيقية بكل المقاييس؟ ولماذا لم يُسلط الضوء الكافي على الواقعة رغم أنها تبقى مفصلية في تاريخ الحركة الوطنية؟
الاحتجاج الذي تحول إلى انتفاضة سقطت سهوا من التاريخ
يبقى الأرشيف المتوفر عن أحداث 7 و8 دجنبر 1952 شحيحا جدا. فحتى الأسماء الكبيرة في تاريخ المغرب المستقل عندما كتبت عن الحدث أو استعادت شريط الذاكرة في الحوارات الصحفية القديمة، كانوا يتحدثون عن الواقعة بتجرد بحكم أنهم لم يعيشوها من الداخل، وإنما وصلت إليهم أصداؤها عن طريق شبيبة الحركة الوطنية الذين كانوا متعاطفين جدا مع حزب الاستقلال.
ولا تتوفر، لهذا السبب، إلا معطيات قليلة عن الموضوع. كيف جاءت أحداث دجنبر الأسود؟ وكيف انتشرت الدعوة إلى الإضراب؟ وما سر تحكم الوازع النقابي في تحريض الناس على النزول إلى الشارع ومغادرة البراريك الصفيحية لتسجيل موقف سياسي مغربي، أدى لاحقا إلى تعزيز الوعي النقابي في المغرب؟
يقول ذ. محمد الحداوي، وهو باحث مغربي في تاريخ الحركة الوطنية، إن ذكرى الأحداث لم يتم إحياؤها بطريقة تليق بقيمتها التاريخية، كما أنه تم توظيفها سياسيا بشكل فج مباشرة بعد الاستقلال، بينما أبطالها الحقيقيون لا يتذكرهم أحد. وحتى عندما يتم الخوض في الموضوع فإن الوازع «الحزبي» الصرف يبقى حاضرا بقوة، وهو ما يضرب في مصداقية ما يتم تداوله.
يقول في مقال خص به «الأخبار» في هذا الموضوع:
«لما بلغ بعد زوال يوم 5 دجنبر 1952 خبر اغتيال فرحات حشاد إلى المغرب، قام المسؤولون المغاربة الأعضاء في قيادة الاتحاد العام للنقابات الموحدة بالمغرب، ممثلين في الطيب بوعزة وصالح المسكيني ومحمد التباري والمحجوب بن الصديق بالدعوة إلى إضراب عام لمدة 24 ساعة تضامنا مع الشعب التونسي، وحرروا بيانا عبارة عن نداء إلى الانخراط في هذا الإضراب.
وفي ليلة السبت 6 / الأحد 7 دجنبر 1952 تطورت الأمور إلى منحى آخر، في حي الصفيح المركزي المعروف بكاريان سنطرال، الذي كان يضم 40 ألف نسمة. فهو في موقع مهم قريب من السكة الحديدية ومن الأحياء الصناعية، في عين السبع وروش نوار. وفيه قامت مسيرات وتدخلت القوة العمومية، فسقط عدد من القتلى في صفوف المغاربة. ويوم الاثنين 8 دجنبر 1952 كان الحي مطوقا بالجيش.
بعد الانتهاء من دفن الشهداء انتظم العمال في مسيرات، لكن القوات الفرنسية واجهتهم بالنيران، ورغم تراجعات تكتيكية فقد واصلو مسيرتهم إلى زنقة لاسال بقلب مدينة الدار البيضاء، قرب مقر المحكمة الابتدائية، حيث يوجد مقر القيادة النقابية».
ولفهم سياق تلك الأحداث وكيف اشتعلت شرارتها في المغرب، يعلق:
«لم تتوقف الأحداث في الدار البيضاء، لكنها ستشمل مدن أخرى في إطار موجة التضامن.
لم يكن الاستعمار في منطقة الشمال الإفريقي، خاصة خلال السنوات الأخيرة يعتمد على الجيش والأمن وحدهما، بل كان يعتمد على المعمرين. ولم يتكتل المعمرون في فروع حزبية أو نقابية أو جمعيات وحدها، بل تجاوزوا ذلك إلى تنظيمات إرهابية مسلحة. وأشهر هذه التنظيمات منظمتا «اليد الحمراء» و«الجيش السري» هذه الأخيرة التي ستتأسس في أواخر حرب الجزائر.
وبالنسبة إلى منظمة اليد الحمراء، فهي تنظيم إرهابي رعته المخابرات الفرنسية بعد فشل محادثات فرنسا مع الوطنيين التونسيين في بداية 1952. إذ بعد فشل هذه المحادثات اعتبر الوطنيون التونسيون الجالية الفرنسية بتونس جالية أجنبية، ينبغي لها ألا تتمتع بامتيازات على حساب التونسيين. وقامت جماعات من التونسيين باستهداف مواقع عسكرية فرنسية. في هذا السياق ظهرت منظمة اليد الحمراء في تونس وقامت بعمليات ضد نشطاء وطنيين، فاغتالت الزعيم النقابي فرحات حشاد في 5 دجنبر 1952، وهادي شاكر، القيادي في الحزب الدستوري الجديد، في شهر شتنبر 1953، واغتالت أيضا الطبيب والفاعل السياسي الوطني عبد الرحمان مامي، في 13 يوليوز 1954. ولم يقتصر نشاط اليد الحمراء على تونس، بل امتد إلى المغرب أيضا. وقدمت بعمليات إرهابية، واستهدفت بشكل خاص الأحرار الفرنسيين المتعاطفين مع الوطنيين المغاربة. فقد اغتالت المقاول الفرنسي لوميكر ديبروي بالدار البيضاء في صيف 1955، وهو المعروف بجريدته «ماروك بريس»، وكان يعتبر من الليبراليين الفرنسيين، وكان يسعى إلى تقريب وجهات النظر بين الزعماء الوطنيين المغاربة والقادة السياسيين في باريس».
- الزنفري لـ”الأخبار” : أرضية مسجد كاريان سنطرال تشبعت بدماء العمال وأبنائهم الذين خرجوا في المظاهرة
قال إن أحداث 7 و8 دجنبر كانت أليمة وتسابق فيها المتظاهرون على تلقي الرصاص لنيل الشهادة
خيوط كثيرة يمسك بها المختار الزنفري، أحد قدماء المقاومة الذين كانوا مطلوبين بشدة من طرف السلطات الفرنسية، خصوصا أثناء مرحلة نفي الملك الراحل محمد الخامس، أي ما بين سنتي 1953 و1955. بدأ مسارة في المقاومة مبكرا وهو دون 15 سنة. كان مندفعا كما يقول ولا يفكر كثيرا في العواقب. تعاطف مع حزب الاستقلال، وأعداد قليلة من جريدة «العَلم» لسان حزب الحزب، كانت وراء لقائه بالفقيه البصري وانخراطه ولو بشكل غير رسمي في البداية، بسبب حداثة سنه، داخل دواليب المُجيشين لصالح حزب الاستقلال لنشر الوعي الوطني داخل أزقة كاريان سنطرال الضيقة. يتذكر معنا اليوم، الذكرى الأليمة لأحداث 7 و8 دجنبر 1952 التي سقطت فيها أرواح الأبرياء، يقول إنهم كانوا يتسابقون نحو الشهادة أمام رصاص الأمن الفرنسي الذي واجه سكان الكاريان سنطرال بعنف غير مبرر. وما زال المغاربة إلى اليوم يجهلون الكثير من الوقائع بهذا الخصوص. لنبدأ..
بداية سي مختار أريدك أن تحكي لي كيف اندلعت أحداث كاريان سنطرال كما عشتها أنت شخصيا؟
أنت تعلم أن الكاريان سنطرال كان مُكونا أساسا من سكان المناطق والقرى، التي اضطر الهاربون منها إلى النزوح نحو الدار البيضاء، بسبب استيلاء المستعمر على أراضيهم. وعندما جاؤوا إلى الدار البيضاء وتكون الكاريان، أصبحوا يشتغلون في المعامل، مثل معمل السكر.. إلخ. وقد حرص حزب الاستقلال على تأطيرهم نقابيا. وبعد اغتيال النقابي فرحات حشاد يوم 5 دجنبر 1952، خرجت مظاهرات وهو ما نتج عنه إطلاق الرصاص على المتظاهرين ووقعت مجزرة كاريان سنطرال. - وكيف عشت أنت ذلك اليوم بالضبط؟
كنت من المتحمسين لحزب الاستقلال وأحرص دائما رفقة مجموعة من الشباب، دون سن العشرين، على أن نكون في طليعة من يجيشون السكان ويدعون إلى الخروج للاحتجاج ضد المُستعمر. وهذا ما تم بالضبط يوم 7 دجنبر 1955، إذ خرجت المظاهرات من كاريان سنطرال، بحكم أن أغلب السكان إن لم أقل كلهم، كانوا من فئة العمال، وكانوا يكرهون فرنسا جدا لأن المُعمرين الفرنسيين تسببوا في نزوحهم من أراضيهم نحو الكاريان.. وطبعا اختيار الكاريان جاء بحكم انخفاض ثمن اقتناء «براكة» داخله، إذ إن النازحين لم يكونوا يملكون ما يقتنون به منازل في الدار البيضاء، واستقروا في البراريك الصفيحية.
في ذلك اليوم أصدر عسكري فرنسي تابع للإقامة العامة، وكان وقتها يشرف على الأمن في الدار البيضاء، أوامر صارمة بإطلاق الرصاص على المتظاهرين. وهنا أستحضر ذكريات مؤلمة جدا، لأن المتظاهرين سقطوا شهداء برصاص الفرنسيين وكانوا يتسابقون لتلقي الرصاص. كان أغلب الضحايا ذلك اليوم يتسابقون للاستشهاد. فقد كان إيمانهم راسخا. - كم كان عدد الضحايا تقريبا؟ الأرقام التي أعلنت عنها فرنسا قيل إنها لم تكن صحيحة وأقل بكثير من الأرقام الحقيقية.
(يصمت).. أثناء المظاهرة، كان الرصاص يمر بجانبي. كنتُ يافعا جدا ومتحمسا، وكنا جميعا نتقدم في المظاهرة رغم أن القمع بالرصاص كان في تزايد. رأيت المئات يسقطون بالرصاص بعد أن يصابوا مباشرة في الرأس أو الصدر. كما أن عدد الجرحى كان كبيرا جدا. هناك من أصيبوا بجروح بالغة، لأن الرصاص أخطأ إصابتهم في مقتل، وجرحوا على مستوى البطن أو الفخذ. ونزفوا بشدة. لقد رأيت الموت بشكل جلي في ذلك اليوم.
المهم. انخرط الشبان في سحب الجرحى وجثث الموتى أيضا، وهنا أريد أن أشير إلى الدور البطولي الذي لعبته بعض النساء داخل الكاريان. لقد كانت لديهن الشجاعة لتضميد جراح المصابين، رغم أن تعليمات البوليس الفرنسي كانت صارمة وتوعدوا من خلال المقدمين والقياد، بعقاب كل من ضُبط وهو يساعد الجرحى.
تم تطويق كاريان سنطرال بشكل مرعب وصارم حتى لا يدخل إليه أحد. - كم استمر هذا الحصار؟
بقينا على تلك الحال طيلة المساء واستمررنا في نقل المصابين وجثامين الشهداء إلى حدود الخامسة صباحا. تصور أن أغلب الشبان لم يناموا نهائيا في تلك الليلة، فقد كانت الأوامر لرجال البوليس تقضي بإطلاق النار، وقتل كل من يتحرك في الشوارع والأزقة.
المهم أن تلك الليلة كانت تاريخية بكل المقاييس. وعاشها سكان الكاريان بكثير من الترقب. إذ كان داخل الكاريان مسجد تحول إلى مكان لإبعاد جثث الموتى عن الأنظار. قضينا نحن الشباب الليلة في نقل الجثامين. - كم تقريبا؟
لا أذكر بالضبط. كانت عملية انخرط فيها عدد كبير من الشبان والنقابيين التابعين لحزب الاستقلال واستمرت لساعات طويلة. ومن كثرة الجثث المصفوفة تشبعت حصائر المسجد بدماء أولئك الشهداء. بينما المصابون كانوا يعانون معلقين بين الحياة والموت. ومع طلوع شمس اليوم الموالي للأحداث، كان الهاجس الأكبر هو البحث عن طريقة لإنقاذ أرواح الجرحى. وهكذا توجهت إلى عيادة الدكتور الخطيب لهذا الغرض. - كنت على علاقة به؟
نهائيا. لقد كنت صغير السن، فسني وقتها لم تتجاوز العشرين، لكني كنت نشيطا جدا في صفوف شبيبة الحزب وسوف أعود إلى قصة التحاقي بكاريان سنطرال. - جيد.. كيف وصلت إلى عيادة الدكتور الخطيب إذن؟
كنت أسمع عنه، وفكرنا في التوجه إليه وإحضاره إلى الكاريان. والسبب أن عون سلطة في الكاريان أخبرنا أنه لا يمكننا أن نُخرج جثامين الموتى إلا بشهادة من الطبيب، وحذرنا من عواقب نقلهم إلى المقبرة أو دفنهم دون تلك الشهادة. والمشكل أننا لم نكن نعرف هويات أصحاب الجثث. لقد كانت المظاهرة كبيرة، والذين ماتوا لم يكونوا يحملون بطائق هوية ولا أي شيء. وكان صعبا جدا تحديد هوياتهم.
كنا عددا من الأصدقاء أذكر منهم بالأخص ناصح محمد بن المحجوب، وكان سوسيا أصليا. المهم تقرر أن أتنقل من الكاريان لإقناع الدكتور الخطيب بالمجيء معنا. وكنا اثنين نملك دراجتين هوائيتين للسباق. وصلنا بسرعة إلى عيادة الدكتور عبد الكريم الخطيب. كانت تقع فوق «كراج العالم». - هل كان يتوقع مجيئكما؟ بحكم أنه وقتها كان على اتصال بالمقاومة كما قيل.
في الحقيقة لم يتصل به أحد. عندما دخلنا عيادته وجدنا مرضى ينتظرون دورهم. كان منظرنا مرعبا، بحكم أننا جئنا من أجواء المظاهرة والقتلى والجرحى وقضينا ليلة بيضاء تماما بدون أي دقيقة نوم. تعاطف معنا المرضى الذين كانوا ينتظرون دورهم، بعد أن طلبنا منهم أن يسمحوا لنا أولا برؤية الطبيب لغرض مهم جدا. - ماذا دار بينك وبين الدكتور الخطيب بالضبط؟
أذكر أنني بعد أن دخلت إلى مكتبه وأخبرته بما وقع في الكاريان، قال لي: «سمعت أن شيئا كبيرا وقع في الكاريان». لم تكن لديه تفاصيل، لأن المكان كان محاصرا ولم يكن هناك تداول إعلامي للواقعة.. أنت تعلم ظروف تلك الفترة. ثم سألني عن انتمائي القبلي، قلت له إنني من دكالة لكني غادرتها بعد وفاة والدي، وذكرت له أسماء بعض أعمامي إلخ.. كان رحمه الله يُحب مدينة الجديدة. لم يتردد الدكتور الخطيب في تقديم يد المساعدة.
جاء إلى كاريان سنطرال وانهمك في رتق جروح المصابين وتضميدها، وقام بعمل كبير في ذلك اليوم. استمر لساعات طويلة في معاينة الجثث والجرحى، ومعه شبان الحي لتقديم يد المساعدة له. وهكذا أسدل الستار على تلك الأحداث الأليمة، والتي لا يعرف عنها المغاربة للأسف أمورا كثيرة. - التقيت الدكتور الخطيب بعد ذلك طبعا.
نعم التقينا في ظروف أخرى، عندما كنت في المقاومة وتقرر أن يتم تهريبي إلى منطقة تطوان عندما صرت مطلوبا لدى الفرنسيين. نشأت بيننا صداقة قوية، وكان رحمه الله هو الذي قدمني إلى ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وطلب مني أن أوصل طردا إلى بوضياف الذي صار رئيسا للجزائر بعد الاستقلال. تطوعت لأنقل الطرد إلى تطوان بسيارة، وأطلق علينا مجهولون رصاصات وأنا جالس مع بوضياف كادت أن ترديني قتيلا بعد إصابة خطيرة في الرأس. لقد كان الرئيس بوضياف يمازحني بهذا الخصوص كثيرا، ويخبر بعض الأصدقاء أني أنقذت حياته في تلك الليلة. - طيب احك لي الآن عن ذكرياتك مع كاريان سنطرال. هل لك أن تصف لنا الأجواء التي عشتها هناك؟
كان الفرنسيون يطلقون على الملك محمد الخامس لقب «ملك الكاريان»، لأن شعبيته كانت كبيرة جدا داخل هذا الحي الصفيحي، الذي ينتمي سكانه بدون مبالغة إلى جميع أنحاء المغرب. لقد كان تنوعا غنيا جدا. خرج منه فنانون وكُتاب وأدباء. - أنت كيف جئت إلى الكاريان؟
(يضحك) قصتي مع الكاريان طريفة. كنت متحمسا ومندفعا. في سنة 1948، وسني لم تتجاوز بعدُ 14 سنة تقريبا، وبحكم أن والدي رحمه الله توفي وأنا صغير، فقد كنت متمردا ولا أحسب العواقب. وغادرت منزل العائلة في وقت مبكر جدا، وصرت أتجول. كانت جريدة «العلم» ممنوعة من التداول وقتها في مدينة المحمدية، «فضالة» سابقا، وكنت سمعت أن قادة حزب الاستقلال يبحثون عمن يوصل الجريدة إلى بعض مناضلي الحزب هناك، إذ كان ممنوعا التواصل بين القيادات، لأن الفرنسيين كانوا يراقبون خطوط الهاتف وكان الحصار مشددا على الوطنيين. تطوعت لحمل بعض الأعداد القليلة إلى «فضالة»، ولم أكن أدرك أبدا خطورة أو عواقب ما قمت به، حتى أنني كنت ألوح بالجريدة في الشوارع وأصيح لبيعها.. (يضحك). - هذا الأمر عرضك طبعا للاعتقال..
كانت عربة البوليس تمر من المكان، وكان سائقها شرطيا فرنسيا ويركب إلى جانبه عون سلطة مغربي، أعتقد أنه كان أحد المقدمين. نهرني وأمرني بالصعود إلى عربة الأمن. تركوني مسجونا في الخلف، وركنوا السيارة وانصرفوا. وبعدها وجدت نفسي أطل من العربة وألوح بنسخ الجريدة أحاول بيعها، وتجمهر حولي بعض الناس. وعندما عاد المقدم أخبرني أن عقابي سيكون كبيرا، وأمرني بالمثول أمام الباشا في اليوم الموالي. وعندما جئت كنت أحمل معي خبزتين في جيب المعطف، إذ كان هاجسي وقتها هو ألا أموت جوعا داخل الحبس.
عندما علم الباشا في اليوم الموالي أنني أنحدر من الجديدة، حاول إفزاعي بعواقب ما سيحدث لي إن ألقي القبض عليّ مرة أخرى وتوعدني بقطع رجلي معا حتى لا أقوى على التجول وبيع جريدة «العَلم». وعندما غادرت مكتبه وجدت رجلا على الباب أمرني دون أن ألفت الانتباه أن أتبعه.
أخذني مباشرة إلى الدار البيضاء، وتوجه بي نحو درب السلطان نحو مقهى عرفت لاحقا أنه لصهر الفقيه البصري. وجدت الفقيه البصري داخل المقهى واستقبلني ضاحكا من قصتي. واحتضنني واستقررت داخل الكاريان لثلاث سنوات لا أغادره. لكني كنت أتردد عليه إلى أن وقعت مأساة 7 و8 دجنبر 1952 التي سقطت فيها أرواح الأبرياء في سبيل استقلال البلاد دون أن يعرفهم أحد. يجب أن يتم إنصافهم للتاريخ على الأقل.
كيف تأثر المغاربة بالاحتجاج النقابي؟
التمحيص في تاريخ العمل النقابي بالمغرب، بما أنه الشرارة التي أوقدت أحداث 7 و8 دجنبر الأليمة في منطقة كاريان سنطرال التي نُسجت عنها أساطير كثيرة، يبقى مهمة صعبة في ظل واقع اختفاء شهود رئيسيين على تلك الأحداث، خصوصا منهم الذين حضروا الكواليس الأولى لانطلاق العمل النقابي في المغرب، تأثرا بمناخ بداية ظهور النقابات العمالية في العالم وليس فقط في المنطقة المغاربية.
محمد الحداوي، باحث في تاريخ الحركة الوطنية، يخصنا بهذه الإضاءات حول الموضوع. يقول: «كان من إرهاصات وبوادر العمل المغاربي المشترك في صفوف الحركات الوطنية بأقطار الشمال الإفريقي تأسيس جمعية نجم شمال إفريقيا يوم 2 مارس من سنة 1926، كإطار تنظيمي بادر العمال الجزائريون بفرنسا إلى تأسيسه، ليكون شاملا لكل العمال والفعاليات الشمال الإفريقية المقيمة بفرنسا. ثم دفع الزعيم الوطني الجزائري مصالي الحاج بهذا التنظيم، إلى جعله إطارا للعمل السياسي من أجل التعريف بقضايا شمال افريقيا، والدفاع عن الحقوق الأساسية في هذه البلدان، وخاصة الدفاع عن فكرة استقلال هذه الأقطار.
وفي يوم 28 دجنبر 1927 تم تأسيس جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين التي ضمن نخبة من طلبة الأقطار الثلاثة لشمال إفريقيا، الذين كانوا يتابعون دراستهم بفرنسا. وهي الإطار الذي سيجمع طلبة هذه الأقطار حتى استقلالها عن فرنسا.
ولم يتوقف العمل المغاربي المشترك، فتم تأسيس مجلة «المغرب» سنة 1932 واستمرت في الصدور حتى سنة 1936، وعالجت جملة من القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية لأقطار الشمال الإفريقي. وقد لعب الأمير شكيب أرسلان دورا أساسيا في خروج هذه المجلة إلى الوجود بدعم من اليسار الفرنسي، ولا سيما الحزب الشيوعي الفرنسي، المناهض للسياسة الاستعمارية المتبعة بمنطقة المغرب العربي.
سيتوج العمل المغاربي خلال فترة الكفاح الوطني بتأسيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة سنة 1947، لتنسيق العمل المغاربي، وهذا سيكون له تأثير على توالي الأحداث خلال السنوات اللاحقة حتى استقلال المغرب وتونس سنة 1956.
وهناك في تاريخ المنطقة المغاربية ثلاثة مواقف حصلت خلال خمسينيات القرن الماضي، أولها أحداث 7 و8 دجنبر 1952 بالدار البيضاء، التي قامت بها جموع من العمال والنشطاء النقابيين، خاصة أبناء أحياء الصفيح تضامنا مع الشعب التونسي، بسبب اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد. ثانيها أحداث 20 غشت 1955 بالجزائر، وخاصة بمدينة سكيكدة، بمناسبة مرور سنتين على نفي السلطان محمد الخامس. وثالثها الموقف المغربي، وخاصة الموقف الشعبي الذي منح كل الدعم للثوار الجزائريين المنظمين في إطار جيش التحرير الوطني، للكفاح من أجل استقلال الجزائر.
بهذا فإن أحداث 7 و8 دجنبر 1952، بمدينة الدار البيضاء المغربية، وما واكبها من أحداث بالمناسبة نفسها بمدن مغربية مختلفة، كانت أكبر تظاهرة وأكثر كلفة على الصعيد المغاربي، جوابا على اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد».