شوف تشوف

الرأيالرئيسية

بين العبقرية والجنون

 

 

بقلم خالص جلبي:

 

يشبه عبد الله القصيمي النجدي السعودي نيشته الذي كفر بالإله، وأصحاب الكهف الذين فروا إلى الجبال وكفروا بالطاغوت، ويشبه ميشيل فوكو الفرنساوي الذي كفر بالإنسان، ويشبه سيد قطب الذي كفر بالعجل الناصري ورأى ظلام الجاهلية يعم البشرية، ويشبه هابرماز الألماني الذي كفر بالحداثة، ويشبه من طرف الكاهن مسلييه الذي كفر بالمسيح والمصلبة، ويشبه الأنبياء العبرانيين مثل يوحنا المعمدان الذي انتهى مصيره برأس مقطوع على طبق من أجل رقصة سالومي! فهو مؤمن عميق الإيمان، كافر ملحد إلى درجة السمية؛ يمثل المركب المتفجر، المتازم للثقافة العربية الحالية، المحتقنة بجيوب وكهوف ومغارات ومدخلا؛ فمن يتأمل انتخابات العالم العربي يصاب بنوبة قيء، ومن يتأمل جملوكيات الخوف والبطالة يتذكر تجارب الهيبريد بمزج جينات الفيران مع البغال لاستنبات كائنات خرافية، ولكن هذا لا يدعو للضحك بل البكاء!!

أفمن هذا العجيب تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون لاهون غافلون..

إن قدر العالم العربي اليوم أنه يصنع ويطبخ، بنكهة لايستسيغها أنف وذوق، ولكنها أكبر من الحقيقة، فنحن جيل التيه والخوف والهزيمة والمحرقة والتطبيع مع الغزاة والاستكانة للطغاة، ولذا كفر القصيمي بكل هذه اللوثة، من الثقافة المحتضرة المحنطة المتكلسة في متحف حي أضحوكة للعالمين، التي يجب تفجيرها والخروج منها، وهي مشاعر الكثيرين، ولكن القصيمي سبق الكل بالصراحة والجرأة؛ فمات مثل أبي ذر طريدا شريدا وحيدا مذؤوما مدحورا من ثقافة تناضل عن نفسها بسيف ولهيب نار يتقلب.

في الغرب تأزم الفكر واختنق، وضربت الكنيسة بستار من الخديعة والكذب والتظاهر بالتقوى حتى انفلق، فولدت الإباحية من فوهات التشدد، والإلحاد من بطن التعصب، فهذا سنة كونية، من آليات الارتداد المرضية. والثقافة العربية لاتخرج عن هذا القانون وحاليا تدخل السعودية الوهابية ومن شايعها هذا النفق المظلم بحركة ارتدادية أشبه بالجنون. ولعل الكاتب (عبد الله القصيمي) يمثل أفضل تعبير، وأعظم تدمير بنفس الوقت، لكل محتويات الثقافة وغيبياتها ومفاهيمها في طلاق ثلاثي لارجعة فيه؛ فعمرها قصير، وعيشها حقير، ومحتواها هزيل مشكوك فيه، من شيعة وسنة، وسلفية وخلفية، وفقهية وحديثية، وقرآن وحديث، ورب وكعبة، فالعرب لاشيء، وتاريخنا كذب، وحكاياتنا مزورة، وعباداتنا باطلة.

بهذه الحدة، وبهذه القسوة المفرطة، وبهذه الثنائية الجنونية، وبهذا العنف الذي مابعده عنف، من بدوي صحراوي يحمل شوك الصحراء من أثل وخمط وشيء من سدر قليل بدون أن يقف عند حاجز وسور؛ ينطلق مثل تسونامي ثقافي بدون شواطىء. وهي ظاهرة مدمرة، خطيرة مزلزلة، مثل الصواعق والحوارق والطوفانات، إذا لم تنظم وتدفع عبر الأقنية والمسارات قتلت نفسها ومن حولها، ولذا فالرجل هرب هائما على وجهه، وترك بلده، وودع ثقافته بعد أن كفر بها ثلاثا، وفي النهاية كان يقول لمن يزوره على خوف من الرصد والرصيد والمخابرات والتقارير السرية؛ تسألني كيف أعيش؟ نحن ثلاثة؛ الله والمرض وأنا؟ فهذا هو القصيمي باختصار..

إذا كان التشدد وفرط التستر والتكتم والتغطية أخت التعرية قد أناخ بكلكله على أوربا دهرا، فقد ولدت حركة الاستربتيز (التعري المتدرج للنساء على ظهر المسرح عيانا أمام الرجال) في نفس الأرض، حيث ولدت البيورتيانية التقية، والتشدد الديني.

وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق.. وفي القرآن فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا؛ فالفرط أخو التفريط، والتشدد صنو الإباحة، والحواف الحدية لاتختلف عن بعضها كثيرا. وصدق مالك بن نبي الكاتب الجزائري، حين اعتبر أن التشدد في كشف جسد المرأة والتعري دافعه جنسي وهو واضح، ولكن التشدد في التستر والتغطية والتعمية ينطلق من نفس الدافع الجنسي، في الاستيلاء على جسد المرأة الأنثى. والشكل الأول كما يقول مالك بن نبي ظاهر واضح ندينه ونهاجمه، في تحويل المرأة إلى سلعة جنسية يباع لحمها ويشترى، أما الثاني فنقع في فخه وشراكه، لأنه عين التقوى وروح التدين، ولا ندري أن الدوافع الخفية العميقة التي تحرك مثل هذا السلوك هي نفس المشاعر الجنسية من التمتع بالجسد. والقصيمي عاش ظروفا من هذا النوع وتمرد فكان الانفجار العظيم. وفي كلماتي القليلة هذه أنبه إلى مخاطر من هذا النوع من الإرهاب الخفي، لونه فكري وليس عسكريا، مسوحه التدين، ومعدنه شهواني.. ويجب توقع حدوث الارتكاس والارتداد المرعب المتناسب مع عظم الانحراف وقوة الهجوم، وهنا ليس على أساس قانون نيوتن الثالث في الميكانيكا، فتحكمه قوة الارتداد المتناسبة مع قوة الاندفاع الأولي، بل كما يقول توينبي المؤرخ أن ما يحكم على حركات المجتمع التاريخية قوانين نوعية مختلفة، أي أن الارتداد في مثل هذه الحالة يكون أعظم بكثير من قوة الهجوم والتوتر الأولية.     

كان أول تعرفي على كتابات القصيمي عن طريق جودت سعيد صياد الكتب والأفكار، فقرأ علي صفحات عجيبة مما جرى بها قلمه، عن الإنسان والتراب والمقدس والتاريخ والأفكار والأوضاع..

لقد اطلعت على العديد من المدارس الهادئة والمتفجرة والمنحرفة ـ بظني ـ والتي تزعم أنها أمسكت بمفتاح التاريخ والحقيقة غير القابلة للنقاش، وآخر عهدي كان بمدرسة عجائبية، سمت نفسها (المنطق الحيوي) بدون أي منطق وحيوية.. ومما زعمت هذه المدرسة أنها صعقت منطق الجوهر عند أرسطو، ونسفت مقولاته العشرة ـ وهي أمتع ما في فلسفته في تحديد الوجود ـ ووصلت إلى فهم الكون المتشكل المتبدل دوما وهو ليس جديد؟ ففي هذا قبل ألفي سنة تحدث هيرقليطس عن مفهوم الصيروة فقال إن وضعت قدمك في نهر مرتين فلا النهر يبقى كما كان ولا أنت؟  لتصل هذه المدرسة بزعمها إلى تغيير كل شيء بما فيها المقدس لتنشأ عقيدة موازية ضبابية ستزول تحت نفس القانون؟ ومثل هذه الترهات تكررت عبر التاريخ ويمكن مراجعة كتاب الملل والنحل لابن حزم أو الشهرستاني أو الفرق بين الفرق للقرافي لنقرأ أعاجيب الفرق والديانات والمذاهب.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى