بين أصول الفقه وأصول الانتساب
ليس مثل الكاتب المفكر اللبناني محمد السماك من يعرف المغرب أكثر. فالرجل الذي ناهض سياسة «تجزئة المجزأ» أو «تقسيم المقسم أصلا»، عمل لفترة من حياته مستشارا إعلاميا في السفارة المغربية في بيروت. وارتقت علاقته مع السفير أحمد بن سودة إلى مستويات أكبر، حين أصبح الأخير مستشارا ذا خبرة في العلاقة مع الدول العربية وصحافتها الأقوى نفوذا في بيروت والقاهرة، قبل أن يداهمها موسم الهجرة إلى الشمال نحو العواصم الأوروبية، باريس ولندن وروما وبرلين.
حين كان زملاء المهنة يعيبون عليه الارتماء في أحضان «دولة رجعية» إبان تمدد أنظمة الحزب الوحيد، وحمل القادة على ظهور الدبابات لتنفيذ الانقلابات العسكرية، ظل السماك يردد أنه سيأتي زمن تصبح فيه الأنظمة المعتدلة أكثر استقرارا وأمنا.
صدقت تنبؤاته وإن تأخرت في موعدها. لكنه راح يقلب صفحات التاريخ، يرشف منها ما يعين على فهم الحاضر، وإن من قبيل الذكرى التي تنفع يوم لا ينفع الندم. وعرج الإعلامي الذي عرف بصداقته المتينة مع رائد الصحافة العربية سليم اللوزي، في اتجاه الأبحاث والدراسات، ينفض الغبار عن المآثر التي تصبح منارات، وإن في شكل أطلال.
مع كل ما تشهده تحولات الأفراد والمجتمعات، تبقى العين اللاقطة للصورة محور اللقاء بين الكتابة الصحفية والتاريخية. فهي انتقائية في التركيز على حدث إعلامي معين، لكنها تتقيد بالوقائع والمعطيات في حينها لدى الباحث في أسرار التاريخ ونوباته وكبواته، وتجلياته كذلك.
في كتابه الأخير عن أصول الزعامات اللبنانية المؤثرة، وتحديدا العائلات التي استقرت في العاصمة بيروت وضواحيها الجميلة، يعرض محمد السماك إلى أصول بعضها المغربية، كما التركية والسورية والمصرية وغيرها. ويرى أن رئيس الوزراء الأسبق صائب سلام يتحدر من عائلة مغربية استقرت في بيروت العام 1860.
من دون أن يدري أحد، لابد أن يكون لنزوح عوائل شامية في اتجاه المغرب المفعول نفسه، ويوم اشتد خناق النظام السوري على معارضيه ومثقفيه ومفكريه، حتى قبل استئثار آل الأسد بالحكم في دمشق بقبضة من حديد، جاء منشقون عن النظام للاستقرار في المحمدية ثم طنجة، وكان من بينهم مسؤولون كبار تلقفتهم الجامعات المغربية وقتذاك.
ووجدت أن صائب سلام يلتقي والزعيم الوحدوي المغربي عبد الخالق الطريس في العناية بمظهره الأوروبي وكلماته المنتقاة من عصارة الفكر والتجربة والأدب. علاوة على نظرته الواقعية، وإن تحمل مسؤولية رئاسة الوزراء في مرحلة دقيقة ستقود إلى تصدع الجبهة الداخلية واندلاع الحرب الأهلية الأولى التي مزقت النسيج اللبناني، ما أفسح المجال أمام دخول قوات الردع العربية التي كانت أقرب إلى «احتلال سوري» بمظلة سياسية.
ليس من باب الصدف أيضا أن الأمير شكيب أرسلان كان له في المغرب أصدقاء، وكان لأفكاره التحررية الصدى الواسع في أبعد نقطة إلى الشام. وبسبب هذه العلاقة التفاعلية وغيرها توجه طلاب مغاربة إلى فلسطين والشام للدراسة والتحصيل ونشأت بين زعامات الحركة الوطنية ونظيراتها في المشرق روابط مودة وتقدير.
لم يجد المغاربة في السنوات الأولى لما بعد الاستقلال أفضل من الزعيم عبد الخالق الطريس لتولي مهمة سفير لبلاده في القاهرة التي استضافت الزعماء المغاربة المنفيين، أمثال رائد حرب التحرير البطل عبد الكريم الخطابي، وزعيم الاستقلال علال الفاسي والعلامة محمد المكي الناصري وآخرين. فقد كانت القاهرة همزة الوصل بين المشرق والمغرب.
لم يطرح السؤال وقتذاك وقبله أين يمكن أن يجد المغاربة ملاذات الضيافة، فقد كان العالم العربي مفتوحا، وساعدت حركة تنقل الحجاج من المغرب الأقصى إلى بلاد الجزيرة العربية في تقوية الصلات وتلاحم الزيجات، واختارت عوائل الاستقرار هناك، فيما توجهت أخرى إلى القدس الشريف، مرورا ببلاد الشام ومنافذ البحر الأحمر. ولعل المثال الذي يجسده حي «المغاربة» في القدس من أهم الشواهد على ذلك التفاعل. لكن المفارقة أن بعض الإخوة في الجزائر لا يريدون النطق باسم «حي المغاربة» إلا للدلالة على البعد المغاربي. ولا ضرر في ذلك لأن المفهوم المغاربي كان شاملا، قبل أن ينحصر في شوفينية ضيقة.
ليست عائلة رئيس الوزراء اللبناني صائب سلام من تتحدر من أصول مغربية، فقد بحث مطربون وفنانون عن جذور الانتساب والهوية، وعندما غنت الشحرورة صباح «مانا إلا بشر» لامست في نفسها القدرة على تمثل العامية المغربية وراحت تبحث عن أصولها، كما فعلت بعدها المطربة شريفة فاضل أو الموسيقار محمد عبد الوهاب.
مسؤولون رفيعون في هرم السلطة في الجزائر لم يخفوا أنهم يتحدرون من أصول مغربية كما فعل وزير الداخلية الأسبق الزرهوني، أو الرئيس الراحل أحمد بن بلة. المفارقة أن جذور الانتساب تحتم الوئام والتفاهم، إلا أنها في كثير من الحالات الجزائرية انقلبت ضدا على الأصول، أي الأعراف وتقاليد المعاملات، مع أن هناك علوما قائمة الذات في الفقه الإسلامي اسمها علم الأصول ذات النزعة المنطقية العالية.