بيروت الرسالة
عبد الإله بلقزيز
ما كان ببيروتَ حاجةٌ إلى أن تَفْقِد نصفَها، وتتبدد في الآفاق وتحت الأنقاض أجساد بنيها، في ذلك البركان الناري الرهيب الذي انفجر في مَرْفَئها، كي تَعْلَمَ أي مكانة لها في النفوس قبل النصوص؛ أي كم خرافـي من الحب تحمله لها قلوبُ العرب والعالم؛ أي سر سحري تَكنه صورتها في عيون من مسحوها بالأبصار أو تذوقوا عذوبة أمكنتها بالأسماع أو من خلال الكلمات…، فما أغناها عن مزيد علم بما هي به تعلم إنْ كان على مزيدِ العِلم ذاك أن يأتيها من وراء خَطْبٍ جديد يُلِم بها، نظيرَ هذا الذي أصابها على حين غِرة، فرمى بسهامه في القلبِ من جسدها.
الذين عرفوا بيروتَ، من غير اللبنانيين؛ مَن أقاموا فيها شطرًا من الزمن، أو ترددوا عليها بين الحِين والحِين، أو حتى مَن مروا بها مرور العابرين يعرفون، على الحقيقة، ما للمدينة في نفوسهم من جاذبية. كثيرة هي المدن التي تشد إليها زائريها، في أرجاء الأرض، وتبعث ذكراها في الخواطر على الحنين إليها والعَوْدِ إن أمكن، لكن بيروت وحدها تسكن الشغاف وتُرسل نداءها إلى مَن قَفَل: حارا يهتاج به الشوق، وجامحًا يَنْفِرُ معه الحنينُ وتَلِين به عريكة المباعدة، فلا يلبث القافِل أن يعود عن القفول إليها، كي يجدد وِصالا مع مدينة شهية يلذ لقاؤها.
ليس من سر تضويه هذه المدينةُ الآسِرة غيرُ ما تُعْلِنُه بلسانٍ جهير. هي آسرةٌ لأنها موْطنُ الحرية والإبداع والعقل والمقاومة والأناقة والتعدد الخلاق. وهي، بهذه الذخيرة، تنوب عن بلاد العرب جميعِها في حسن رعاية هذه القيم وتنميتها؛ في التنزل منها بمنزلة العاصمة الرمزية؛ التي لا تسمح مدينة لنفسها بأن تزاحمها على موقعها الذي كان لها منذ زمن النهضة في القرن التاسع عشر، والذي لم يَشْغُر منها حتى حين أتى عليها حين من الجنون الجماعي الأهلي أقحل بستانها الحضاري، أو حين صب عليها الحقد الصهيوني حممه النارية فأهلك النسل والزرع والضرع.
بيروت أكبر من مكان في جغرافيا وطن صغير، ينتمي إلى وطن كبير، وأبعد من زمان يُحْتَسب بالعد؛ بيروت رسالة: رسالة في محيطها العربي الفسيح ورسالة في رحاب عالم تَوزع بين الإعجاب بها وإرادة السيطرة عليها. هي ملتقى الثقافات والرسالات والأفكار والأمزجة: على ميادينها تتفاعل فتتقاطع أو تتبادل التأثير سرا، كي يخرُج من كيمياء التأليف ذلك التركيب الفذ الذي يسري مفعوله في الأرجاء. هي شرق الشرق وغرب الشرق يتعايشان بألفة، وهي شرق الغرب تقول له ما الشرق؛ هي لسان الحال يقولنا كما نكون: في المَساءَةِ والمَحْمَدَة؛ في نكْباتنا والبطولات، في النواجع والمَواجع. كثيرا ما هي نابَتْ عن غيرها من المدائن والبلاد، فحملتْ عنها النوائب والبوائق، وصمدت وحدها من غير ظَهير، ولم تطالب أحدًا بغير ما يطالِبُ به المُحِب محبوبه. هي أبدا تعطي بسخاء واعتداد، وفي اللحظة الظلماء تَفْلِق الأُفُقَ ليَدَّفَّق الغَدُ بعدَ طولِ انسداد.
مدينة المدائن هذه، مسقطُ رأس الحرية والإبداع والألَقِ فينا، هي جسدنا الجماعي: في جغرافيتنا الممتدة من الماء إلى الماء: نرتعشُ لرعشتها: نَأْلَمُ لألمها، نبكي حزنَها، نغني فرحتَها، نرفع الهامات لبطولتها؛ هي نحن، ونحن هي، ومن دونها فراغ في الرّوح، واقتحال في النفس. ها بيروتُنا، اليوم، تنزف وتودع شهداءها وتضمد جروح جرحاها وتتفقد نصفها المفقود. كم هي في شديد حاجة إلى عربها، اليوم، مثلما كانوا هم، دوما، في مسيس حاجة إليها. أيها العرب؛ هذه بيروتكم تناديكم من تحت أنقاضها؛ تستصرخ شعور الواجب فيكم؛ فمن يُقرض منكم بيروتَ قرضا حسنا…