شوف تشوف

الرأيالرئيسية

بوتين.. ميونيخ وبطرسبورغ

أرنست خوري

مقالات ذات صلة

يعود تاريخ أحد خطابات فلاديمير بوتين والذي أسال حبرا كثيرا إلى فبراير 2007، وقد احتضنه مؤتمر ميونيخ للأمن. أما أحدثها شهرة، فهو الذي أدلى به على امتداد 73 دقيقة، يوم الجمعة الماضي، خلال الجلسة العامة لمنتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي الخامس والعشرين. بين 2007 و2022 تحول العالم. تحول كل شيء إلا بوتين. كأنها كانت أكثر بكثير من 15 عاما بالنسبة إلى العالم، وكأنه كان الأمس بالنسبة إلى بوتين. تغيرات كثيرة داخل روسيا وأمريكا، داخل «الغرب» الذي يعاديه بوتين وداخل الشرق. في حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، في نظرة روسيا إلى نفسها كأوروبية أو كأوراسية وإلى العالم، في نظرة العالم إلى روسيا، وأخيرا في تجويع روسيا ــ بوتين للعالم و«تربيته» بسلاح الغذاء ومصادر الطاقة والأسمدة.

حين ألقى بوتين خطاب ميونيخ، كان سجله الحربي متواضعا. حرب واحدة في الشيشان، لم يفجرها هو، بل أدارها وأنهاها، ومعروف أن فلسفة الرجل في إنهاء الأمور ممهورة بختمه: سياسة «الأرض المحروقة» التي صارت «مدرسة». في خطابه ذاك، خلطة من إهانة ذكاء المستمعين والشعبوية والتبسيط الذي يُشعر المخاطَب بضيق لا يطاق في الصدر، إلا أولئك الذين يرون ملامح لينين على قسمات بوتينهم، وهؤلاء الذين وجدوا قائدا لا يشبه الآخرين، سَيُخَلصُ البشرية من الأحادية القطبية، ليدخل النظام العالمي الجديد الروسي ــ الصيني حيز التنفيذ. يستغرب بوتين في ميونيخ كيف «ترفض بلدان عقوبة الإعدام، فيما تشارك في حروب غير شرعية يسقط فيها مئات آلاف الضحايا». هذا كلام بوتين لا الأم تيريزا ولا المهاتما غاندي. ثم يضع على لسانه كلمة ديمقراطية، ولا يتعب من تكرارها، ويحدد سبب مشكلته مع العالم الذي تحكمه الأحادية القطبية، بأنه «يجافي الديمقراطية». ولأن هذا العالم تحكمه أحادية قطبية، يتابع الرئيس الروسي، فقد «ازدادت الحروب المحلية والإقليمية وبتنا نشهد استخداما غير مضبوط ومبالغا فيه للقوة العسكرية في العلاقات الدولية». ولكي يقنع أمريكا والغرب بفوائد الديمقراطية التي لا يعرفونها هناك في تلك البلدان، يدعوهم إلى تأمل تجربة التحول السلمي نحو الديمقراطية في بلدان المعسكر الاشتراكي، التي راح يقضمها بوتين الواحدة تلو الأخرى.

ذهبت الأيام وعادت الأيام، ووصلنا إلى بطرسبورغ من بعد حروب جورجيا والقرم فسوريا وأوكرانيا وجبهات «فاغنر» متعددة القارات، فتلويح بالضغط على الزر النووي بحماسة منقطعة النظير، وتجويع الكرة الأرضية… موقع «روسيا اليوم» (هناك من يسميه وسيلة إعلامية) فرّغ جزءا مطولا من كلمة بوتين في بطرسبورغ. الديمقراطية، بعدما كررها مرارا في ميونيخ، وردت مرة واحدة على لسان الرجل في خطاب الجمعة الماضي، وفي أي سياق؟ في قوله إن «العمليات الديمقراطية في أوروبا تشبه السيرك». معروف منذ أيام الرومان أن السيرك يتقاسمه مهرجون وراقصون وممثلون كوميديون وأكروباتيون. هؤلاء بالنسبة إلى ضابط الاستخبارات، أدنى مراتب البشر، ربما لكي يجعلهم تجسيدا لشتيمة تليق باحتقاره الديمقراطية…
كم هو حقير هذا العالم الذي نعيش فيه، وكم هو مهين أن يضطر المرء إلى تهذيب مفرداته لدى الكتابة عن رجل يقتل ويحتل ويقضم بلدانا ويهين شعوبا ويهدد ويُجَوعُ ويبتز… وفي النهاية يخبرنا عن بشاعة الأحادية القطبية الأمريكية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى