بنية القرآن ومحاولات التدمير
خالص جلبي
مسكينة السيدة المغربية التي اكتشفت أن القرآن ليس واحدا بل نسخا شتى، وأن قرآنها غير القرآن، وعليها أن تسكت فلا تتابع القراءة! مسكينة كانت أمية لا تحسن فك الخط، كان حلمها أن تقرأ القرآن حتى إذا تمكنت وقرأت أمام أستاذة قالت لها: قفي، القرآن الذي بين أيدينا غير القرآن الذي بين يديك!
كانت صدمة غير قابلة للتحمل؛ فبعد كل الجهد لا تصل إلى القرآن الذي عشقه قلبها. هذه البداية تنفع لمن يريد الاطلاع على كتاب تم تداوله في المغرب بعنوان (مخطوطات القرآن)!
قرأت الكتاب على هدوء حتى لا أظلم الرجل لأعرف طبيعة ما حصل لهذه المرأة المصدومة، مسكين المؤلف وقد تكون والدته، بكى على مصير المرأة التي تقرأ القرآن، لتكتشف أنه غير القرآن المعروف!
وما حصل هو أمر في غاية البساطة، بين قراءة (ورش) حيث تدمج البسملة مع (حم) من سورة «الزخرف»، وبذا يسبق بآية عن قراءة حفص، ثم تأتي قراءة ورش لتقسم الآية (لاحظ أنها عين الكلمات) = أم هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين. فقسمها ورش إلى آيتين حتى تنتهي السورة بنفس عدد الآيات 89 آية، ثم يأتي صاحبنا فيخلط بينها وبين مسألة مختلفة عن المرأة سماها العار والتمييز والجهل والإقصاء، وهي مسألة لا علاقة لها بقصة حرف القرآن، وفي النهاية ليصل إلى ما تعلمه من أساتذته المستشرقين، لمن يقرأ القرآن أنها محاولات يائسة للغة القرآن في مرحلة تدوينها الطفولية.
الرجل حسب تمحيصي لأفكاره (ص 22)، ساعة يقول لم يكن ثمة توثيق في كتابة القرآن، ثم يضطرب فيقول لا إن زيد بن ثابت جمع النصوص من اللخف والجريد والأضلاع وقطع الجلد. ثم يذهب إلى أن (ابن مسعود) غضب من تعيين الرجل وهو متوقع، ويستند إلى قول له وهو مستبعد من صحابي جليل أن (زيد بن ثابت) من أصل يهودي لما اعتنق ابن مسعود الإسلام، وهنا نعلم أن من لم يتقدم به عمله لم يسبق به نسبه، وهو مبدأ إسلامي معتمد ومكرر، أن الكفاية هي الأصل، وهنا نرى شهادة في زيد أنه ترجمان الرسول (ص)، وأنه كان يترجم الرسائل السريانية والعبرية التي كانت تأتي رسول الرحمة (ص) في مخاطبة الأقوام، فكان نموذج المثقف في تلك الأيام.
وفي (ص 23) يرى صديقنا أن نسخ القرآن التي ظهرت في أول العهد الإسلامي كانت كثيرة ومتباينة، سواء في ترتيب السور أو الزيادة في عددها عند (بعضهم)، من هم؟ لا نعرف، أو نقصان عند الآخرين (من هم)؟ وهو في هذا ينقل بشكل خاص عن المستشرق الألماني (تيودود نولدكه). ويضيف أن تعدد المصاحف واختلافها دفع المسلمين إلى أن يكفر بعضهم بعضا!
ويقول صديقنا (ص 24) إنه في عهد عثمان تم اعتماد النسخة النهائية، وإتلاف أي نسخة أخرى؛ فقام (عبد الله بن مسعود) بإعلان التمرد العام ضد أي مصحف غير مصحفه، وحرض أهل الكوفة على ذلك، وإن عثمان دفع ثمنه لهذه الفرية الكبيرة باعتماد نسخة منفردة من القرآن، وعدم الاعتراف بمصحف ابن مسعود.
ولكن صاحبنا لم يحدثنا عن تمردات أخرى، مع وجود نسخ شتى، كما ذكر عند علي وأبو موسى الأشعري وأبي بن كعب وآخرين.
وفي (ص 25) يقرر أن واقع الأمر يدل على أن القرآن ضاع منه الكثير؛ فساعة ينقل عن (أبي موسى الأشعري) أن المسلمين كانوا يقرؤون ما يشبه (سورة المسبحات) وأنه نسيها! وتارة عن (عبد الله بن عمر) أنه يتحدث عن قرآن كثير ضاع وفقد، ويقول (الأشعري): إنه أضاف إلى الآية (لم تقولون ما لا تفعلون) جملة (فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة)، والسياق القرآني أعذب وأجمل بكثير (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). أو أن (ابن عجلان) قال: إن سورة «البراءة» كانت بطول سورة «البقرة» (قارن بين 129 آية في سورة «التوبة» و286 آية في سورة «البقرة»)، أي طار ما مقداره 157 آية! وينقل عن (أبي بن كعب) أن آية بعينها طارت وهي رجم الزاني (أن الشيخ والشيخة يرجمان البتة)، وهو ما يخالف سورة «النور» في حكم الجلد فقط. كما ينقل عن عائشة (رضي الله عنها) أن سورة «الأحزاب» كانت 200 آية، (طيران 127 آية!)، وحين يتحدث عن أسباب الضياع يعزيها إلى عدم صمود مواد الحفظ، وضعف الذاكرة، وقلة النساخ، ثم إن نفس رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم مسكين كان ينسى (لا يلوث لسانه بالصلاة عليه حرصا على الموضوعية كذا!) بدليل (سنقرئك فلا تنسى)، والآية كما نرى تعهدت بأن لا ينسى.
والمهم وخلاصة نظرية الرجل أن هناك نسخا كثيرة للقرآن، وأن كثيرا منها ضاع، وأن ما بقي منها نالته يد التحريف والضياع الجزئي أو الاستعجال أو عدم الثقة أو ضعف التوثيق. بل إن رسول الرحمة (ص) حين يسمع من يقرأ القرآن عليه، يقول: سبحان الله لقد نسيتها. ويمضي صاحبنا إلى أكثر من هذا فيقول: فهمونا ماذا تعني القراءات، هل هي سبع أم عشر، أم زادت عن 1900؟
ولكن يجب أن نعترف للرجل أنه بذل جهدا غير عادي في محاولة وضع ديناميت تحت بنية القرآن، لنسفه بطريقة (تتظاهر الموضوعية والعلمية كذا!)، ولكنه ما زاد القرآن إلا صمودا والتماعا، وشهد أنه كتاب يعلو ولا يعلى عليه.
أذكر من مسيحي داعية أيضا قراءته المعمقة للقرآن، ليقول إن القرآن يدعو إلى ألوهية المسيح، حسب الآية (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)! وينسى السياق، كما هو الحال مع الشحرور الشامي الذي يمسك بذنب كلمة فيلعب بها ويترك السياق، كما في كلمة (نساء)، فيقول إنها ليست نساء بل نسيئة، وفي القرآن 59 موضعا بكلمة نساء، فماذا يحصل إن مضينا نلعب مع الشحرور أو صديقنا المغربي؟ تماما كما قال الفيلسوف فيتجنشتاين: اللغة لا تزيد عن لعبة.