أتذكر جيدا كيف بدأت رحلة حفظ القرآن ولم تكن من خططي، لكنها جاذبيته الخاصة. كان أساتذة الديانة عندنا قوم غير صالحين إلا النادرين. ومن حبّب إلي اللغة العربية والشعر الجاهلي أستاذ من مدينة حمص، أديب أريب، وسيم الصورة، يعرف كيف يعلم الطلبة هو الأستاذ فرحان بلبل، وكان فعلا بلبلا يغرد. ولو تعرفت على الرجل مبكرا لربما حفظت المعلقات العشر. هكذا بدأنا نتذوق الشعر العربي، ولو من عصر الجاهلية.
هكذا استمتعت برباعيات الخيام، مثل شعر طرفة بن العبد وغزله وعربدته وأن العشيرة تحاملت عليه وعزلته كما يعزل البعير المريض. كنت أحفظ القرآن وأخذ مني حوالي ثماني سنوات بدون معلم وموجه، بل حُبِّب إلي خاصة في السور الجميلة، لنقل أواخر السور مما كنت أسمعها من إمام المسجد حين أصلي خلفه صلاة العشاء الأخيرة والمغرب، مثل آخر سورة «التوبة» (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين)، أو أواخر سورة «المؤمنون» (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ولا هم يتساءلون)، أو أواخر سورة «النحل» (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، لكن الشيء الذي كان يتفلت مني مواضع السور، فهو يقفز من موضوع لآخر بدون رابط يربط بين المواضيع. تمنيت أن يكون له فهرست مواضيع، كما هو الحال في فهرست السور أن السورة كذا في الصفحة كذا.
لم تكن المواضيع مطلقا بهذا الترتيب والنسق، نموذج ذلك سورة «البقرة» تستفتح بذكر الأصناف الثلاثة من البشر، متقون وكافرون ومنافقون. ليمشي السياق بعدها إلى قصة الخليقة ومسرحية الوجود وانطلاق كفاح الخير والشر في العالم، ثم الدخول إلى قصص مطولة عن بني إسرائيل. على هذا النسق حاول صاحب «في ظلال القرآن» أن يستعرض المواضيع الموجودة في كل سورة، ربما سورة «الأنعام» تمشي بنفس متطاول. ثمة رواية أنها نزلت دفعة واحدة والرسول على ظهر ناقة، إذ كادت لتكسر عظام الناقة.
حتى رسول الرحمة كان يتعرض لنوبة عجيبة من تبدل الوعي، مما يجعله يتمدد ويغطى حتى ينتهي الوحي. كان أحيانا يحاول أن لا ينسى، كما قالت الآية: «سنقرئك فلا تنسى». كان القرآن ينقش على قلبه، فينطقه إذا انتهى الوحي. ونظرا إلى أن ترتيب الآيات كان حسب الأحداث، تمنينا أن نعرف بالتفصيل عن مناسبة نزول الآيات، بعضها عرفناه والكثير لم يرتبط بمناسبة محددة، بل هو قوانين عامة. ولكن لضم أو جعل حبات المسبحة في خيط واحد، هو الذي جعل الآيات تمشي بنسق معين في سورة بعينها. لكن من يقرأ يشعر بنسق مختلف تماما عما نكتبه نحن. أنا شخصيا كاتب، بالموازاة مع مهنتي كطبيب وجراح، وحين أسطر مقالة أجعل لها مقدمة وخاتمة وجسم.
المشكل في القرآن أنه يصعب أن تجعله كما في المقالات التي نكتبها، وهذا الذي جعل من عاش تلك الفترة أن يقول لولا فصّلت آياته، أو إنه تملى عليه الآيات بكرة وعشيا، أو إنما يعلمه بشر. مع هذا فمن يمشي مع سورة «البقرة» التي هي أطول سورة في القرآن بعدد يصل إلى 286 آية، يعجز عن جعلها مثل المسبحة التي فيها الحبات تتناسق وتمسك بعضها ببعض في نسق يجعلها وحدة معرفية متجانسة، لها بداية ونهاية وجسم لمسألة محددة. القرآن لم يفعل قط إلا في سورة واحدة تشكل رواية لها بدر وخاتمة هي سورة «يوسف»، وهي من أواخر ما نزل في الفترة المكية.
السؤال ما السر في هذا؟ والجواب ذو وجهين: الأول أن كتلة من الآيات نزلت في واقعة معينة، مثل أول سورة «النور» في قصة الإفك، لإنارة المجتمع الإسلامي بنور الهداية في حادث مروع كاد أن يفجر المجتمع الإسلامي من الداخل، أو قصة يهودي متهم ظلما، فتنزل الآيات في تبرئته (ولا تكن للخائنين خصيما.. ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرمي به بريئا، فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا)، أو قصة كعب بن مالك في آخر سورة «التوبة»، وتخلفه عن الحملة العسكرية التي مشطت الجزيرة العربية حتى حدود الأردن الحالية، وكيف نال توبة وكأنه ولد من جديد وكانت درسا قاسيا للثلاثة الذين تخلفوا، وبمقاطعة اجتماعية دامت خمسين يوما. ولكن الجانب الثاني في القفز من موضوع إلى موضوع، يجعل بنية القرآن مختلفة عن كل كتابة من كاتب.
ولعل هذا النسق هو ما دفع المغني البريطاني الذي كان مريضا فاطلع على القرآن، فلم ير اسم مؤلف، كما لفت نظره ذلك النسق المختلف إلى أن يُسْلِمَ؛ بل يمضي جيفري لانغ فيصف القرآن بالمعالج النفسي، حيث إن الوساوس التي تلعب في الصدور يفاجئك القرآن بالإحاطة بها، بل ومعالجتها، فيكون هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور. أنا شخصيا وفي رمضان الحالي 2023م ـ 1444 هجرية أقرأه مجددا وكأنه جديد علي، مع أنه في صدري منذ أكثر من نصف قرن.
ومن المهم في التراويح ليس الكثرة، بل الخشوع والتدبر لو كانوا يعلمون. هذه المعضلة إن صح كذلك حيرت صاحب «في ظلال القرآن»، إلى درجة طلب المساعدة من قرائه؛ أما أستاذي جودت سعيد فقد فهم أنه كتاب حياة فنحن في اللحظة الواحدة قد نأكل ويرن التلفون، أو نمشي فينزل المطر، أو نسوق سيارة فنتعرض لحادث. والحياة هكذا ليست بنسق واحد، ومنه النظام النجمي في السماء؛ فالجاهل لا يفهم منها سوى المصابيح، أما علماء الفلك فيرون فيها سحر النظام، وهو أمر انتبه إليه فلكيو بابل من قديم الزمان، ومنه جاءت الهداية لإبراهيم حين نظر في النجوم، فقال إني سقيم، ليهتدي من نورها إلى من خلفها الله رب العالمين إن إبراهيم لأواه حليم منيب.
خالص جلبي