بداية الحرب
بعد أربعة أيام على اعتقال صلاح عبد السلام، أحد مهندسي ومنفذي عمليات باريس، والناجي الوحيد من هلاك هجمات 13 نوفمبر من العام الماضي، اهتزت العاصمة البلجيكية، وتحديدا المطار الدولي وخط الميترو لمحطة مالبيك، على دوي انفجارات إرهابية خلفت أزيد من 31 قتيلا و270 جريحا. وحملت العمليتان البصمة السوداء والدامية لتنظيم «داعش» وبتوقيع مخططين ومنفذين ينتمون لنفس الفريق الذي هندس لعمليات باريس. اليوم، وبعد قرابة أسبوع على هذه الهجمات التي استهدفت القلب النابض لأوروبا، لا زالت تفاعلاتها متواصلة داخل بلجيكا وفرنسا، مع اعتقال وتفكيك ما تبقى من أعضاء الفصيل الفرنسي ـ البلجيكي. وبدأت ديابوراما المخططين والمنفذين تتضح تدريجيا لتوفر لنا بانوراما أولية عن الشبكة الإرهابية التي تتناسل خيوطها بين الرقة بـ(سوريا)، مولنبيك وشربيك بـ(بلجيكا) والسان دونيه وأرجانتوي بـ(ضواحي باريس). الواضح أن عمليتي بروكسيل جاءتا للرد على اعتقال صلاح عبد السلام، لكنهما نفذتا أيضا لإتمام ما لم ينجزه هذا الأخير الذي لم يعد في أعين «داعش» ذلك «الانتحاري الشمولي» الذي عليه فتح الجهاد بالقتل وختمه بالشهادة والاستشهاد. فرميه لحزام المتفجرات وهو في باريس ثم فراره إلى بلجيكا بعد عمليات 13 نوفمبر، كان بمثابة «خيانة» للالتزام بالجهاد الصلب أو الراديكالي المفروض في أي انتحاري. استسلم صلاح عبد السلام للخوف وقد تستغل شرطة التحقيقات ضعفه وتناقضاته وكذبه للضغط عليه، اللهم إلا إذا التجأ إلى الصمت. وهذا ما يفسر تفعيل «داعش» لعناصر انتحارية قادرة على الانتقال إلى طور التنفيذ. وبذلك تكون «داعش» قد نغصت على بلجيكا وفرنسا فرحتهما بعد اعتقال صلاح عبد السلام وأظهرت في الوقت ذاته أن الحرب والمواجهة مستمرتين ولا زالتا في أطوارهما الأولى. على صعيد آخر كشفت هاتان العمليتان وذلك على غرار عملية «شارلي إيبدو،» وقبلها عملية محمد مراح بتولوز ومونتوبان، عن وجود «إرهاب عشائري» يصطبغ تارة بلون «خلية الإخوة» (الإخوة كواشي، الإخوة عبد السلام، الإخوة البكراوي، الإخوة بن الحسين) وتارة بلون «الصحبة». أصدقاء نشؤوا، درسوا، جربوا عنف التهميش و«شدو» حيطان البطالة، سطوا على البنوك والمتاجر.. في نفس المدينة قبل أن يهاجروا إلى سوريا ليعلنوا بيعتهم للبغدادي.
ويطرح هذا الوضع فشل سياسة الاندماج التي «تطبل» لها الدولة سواء في فرنسا أو بلجيكا، وفشل اندماج هذا الجيل في الجسم العائلي للبلد الأصل. إذ نجدنا أمام جيل منفصم سكيزوفريني لا يعترف لا بقيم بلد التبني ولا بقيم البلد الأصل بل بـ«قيم» داعش. كما تجد هجمات بروكسيل بعضا من تفسيرها وتبريرها في الهزائم الأخيرة التي لحقت بـ«داعش» وبالأخص تصفية بعض الأطر المسيرة سواء في سوريا، العراق أو ليبيا من طرف أمريكا، كان آخرهم عبد الرحمان القدولي، أو خسارة التنظيم لمواقع استراتيجية.
وعليه حرك التنظيم آليته في الخارج لصرف الأنظار عن هذه الهزائم مع نقل المعركة إلى قلب أوروبا، الحلقة الضعيفة التي يمكن أن ينشر فيها الخراب بفضل بضعة عناصر أو كوموندو محدود العدد.. وتلعب «داعش» على عامل المفاجأة وضعف الاستخبارات الغربية للقيام بضرباتها. فلا زالت هفوات الاستخبارات البلجيكية مثار سجال حاد أدى في البداية إلى تقديم كل من وزيري الداخلية والعدل لاستقالتهما قبل أن يرفضها الوزير الأول. فبالرغم من بعض الإنجازات، وبالرغم من الإمكانيات اللوجيستية والبشرية التي تتوفر عليها، لا تملك هذه الأجهزة خطة سحرية لاستشراف، استباق وإيقاف العمليات الإرهابية. يمكن لهذه الأجهزة أن تتصنت، تراقب، ترصد التحركات إلخ… لكنها لا تقدر، إلا في حالات الوشاية، على استباق الضربات. وفي أغلب الحالات التي أدت إلى إيقاف العناصر الخطيرة، كانت «تشكامت» أفضل وسيلة للقبض على المدبرين والضالعين في هذه العمليات. هذا ما حصل في مدينة أرجانتوي بالضاحية الباريسية، والتي أدت إلى اعتقال رضا كريكت، المقرب من عبد الحميد أبا عود. إذ كان «ضحية» لوشاية أحد معارفه.. والآن هل تم فعلا القضاء على الخلية البلجيكيةـ الفرنسية كما صرح بذلك فرانسوا هولاند، بأن فرنسا واليوم بلجيكا في حالة حرب؟ ألسنا في بداية الأشواط الأولى من حرب مستدامة، ولا أحد يملك وصفات سحرية مضادة للإرهاب، وإلا لكان قد قضي عليه في المهد منذ البداية. الكل يعرف أن الإرهاب يتناسل من موته وأن أي حديث عن نهايته لا يعدو كونه وهما من ضرب الخيال.