شوف تشوف

الرأي

بائع الورد يكمل قائمة المعتقلين

أمام وكيل الملك في المحكمة الابتدائية في الرباط إشعار مفاده أن أعداد المعتقلين احترازيا، في مركز شرطة الليلة السابقة، مائة وواحد وثلاثون شخصا. وعلى قوائم المسؤول الأمني في المداومة نفس الرقم ناقص واحد.
لا يستقيم الحساب، ولئن كان المرء مجرد رقم في المخافر والسجون، بما يغذي الشعور بسلب حريته قهرا أو عدلا. فمن سمات الأرقام أنها يجب أن تتطابق مع الوقائع. ففي أكثر المحاكمات السياسية التي عرفها المغرب، كان التدقيق في توقيت ومكان الاعتقال آخر شيء يتم التفكير فيه. وبسبب مؤاخذات المحامين ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، باتت الضابطة القضائية تعير هذا التطابق ما يستحق، وإن عبر اختلاق وقائع خيالية.
كيف السبيل إذن للملاءمة بين الحالتين؟ أي تقديم عدد المعتقلين كاملا مكتملا، بالأسماء والمهن والتهم التي تتعلق في كل هذه الحالات بالسكر العلني، وما يرافقها من ملابسات. القانون يحظر بيع الخمر سوى للأجانب غير المسلمين، وإذا حدث تجاوز، وهو الغالب فإن مثل هذه التهمة تفرض تقديم أصحاب الرخص الممنوحة، لأنهم خرقوا القانون. ومادامت محلات دهم «الفاركَونيت» لم تستثن أي محلات تلك الليلة، فلا أقل من أن تكون نسبة المعتقلين من أصحاب المحلات بقدر عشرة في المائة، بمعدل الرقم 13 المشؤوم لكل حانة أو مطعم أو ما شابه.
معادلة معقدة لا شك في ذلك، لأن اعتقال أصحاب الرخص يحتم إغلاق المحلات. فهذه التجارة المحظورة والمستباحة في آن واحد، تلزم حملة الرخص بعدم مغادرة محلاتهم. ومن دأب على انتهاك القوانين سارية المفعول لن يعدم في إيجاد الوسائل التي تحقق الالتفاف عليها. وما يمكن تثبيت وقائعه في حالة السكر الطافح، يتعين إثبات شراكة أصحاب المحلات. ولم يكن قريبا أن بعض «الكمائن» تنصب للخارجين من تلك المحلات على بعد خطوات منها.
مطلع تسعينيات القرن الماضي، انفردت العاصمة الرباط إلى جانب ضواحيها المتمددة شمالا وجنوبا، بتنفيذ حملات دهم الأماكن العمومية، وضمنها تلك التي يقصدها زبناء منتقون. وعند كل صباح تنتشر الأخبار عن تعرض هذا الملهى أو المرقص أو غيره إلى دهم قوات الشرطة التي تقتاد كل ما يرتاد تلك المحلات في التوقيت والمكان الخطأ.. نساء ورجال متزوجون وعزاب نالوا «عقابهم» بصرف النظر عن مواقعهم الاجتماعية أو المهن والوظائف التي يزاولونها، بل إن عسكريين بلباس مدني كانوا ضمن حطاب وحصاد «الفاركَونيتات» التي عادت إلى زمجرتها وعشوائية اقتناصها.
لا يمكن لحملات بهذا التشدد المغالي أن تتم خارج المألوف في إصدار الأوامر. والأكيد أن هناك من برر الإقدام على «تربية» الخارجين عن القانون، أولئك الذين يرتادون أماكن السهر ويدفعون، وليس غيرهم ممن يتسكعون في الشوارع قبل مغيب الشمس، ولذلك قصة أخرى.
في الأدبيات، صاغ الكاتب عبد الجبار السحيمي ندوب مرحلة كاملة في قصة صغيرة حملت عنوان «الفاركَونيت»، رآها تتمادى في مشيتها وتتوقف عند أزقة بلا مخارج، ولا تلبث أن تنطلق بسرعة، تملأ أحشاءها بالمطلوبين الذين تسبقهم التهم الموجهة إليهم، قبل أي استنطاق. رصد الكاتب ظاهرة «الفاركَونيت» وقد تحولت إلى «ماركة» مسجلة يعرفها المناضلون والكتاب المتمردون، وكل الذين تشتم فيهم رائحة العناد والرفض.
أصغى السحيمي إلى خفقان قلوب التصقت إلى يسار الصدور. ولم تسكن هدير محرك وعجلات «الفاركَونيت» أن يوقفها عن النبض المرتبط بسنة الحياة. ولعله لم يفكر في أن إطلاق اليد في العبث بالأحلام، سيوازيه نوع من «عربدة» العربات في زمن آخر. ومن لم يتجرع كأس الاعتقال متهما بالدفاع عن قضية مبدئية، لاحقه شكل آخر بتهمة طافحة، على حد المصطلحات إياها.
«فاركَونيت» السبعينات تختفي وتتوارى لتظهر من جديد بذخيرة حية اسمها الاعتقال التعسفي، من أجل أن تهزم الحالمين بالتغيير، بينما «فاركَونيتات» التسعينيات أرادت أن تهزم الشعور بالحرية الشخصية. كل شيء مسموح بالسليقة والأصل، والنزوات، وأي شيء منه محظور بقوة الردع القانوني الذي يعلق لافتات تمنع بيع الخمر للمسلمين. لكن لا أحد من الباعة يطلب ورقة الهوية الثبوتية، كما لا أحد من المستهلكين يقدم أوراق «اعتماده» للمتاجر والمحلات. فهناك دائما علاقة ملتبسة بين المسموح والمحظور، في مثل خيط رفيه لا يرغب أي كان في رؤيته.
لا يختلف الأمر كثيرا عن علامات الطريق، حيث السرعة محددة والتوقف ممنوع، والمرور لا يكون إلا بانطلاق إشارات الألوان. لكن معادلة الملاءمة بين الاستبيانات الموضوعة على مكتب وكيل الملك، وتلكم التي حررتها الضابطة القضائية، تتطلب إيجاد مخرج «لائق» لا يشوبه الارتياب.
في التفاصيل أن مفتش شرطة أحصى المائة وواحدا وثلاثين معتقلا، ثم أغلق الأبواب، ليأتي من يخلفه في المداومة حوالي الساعة السادسة والنصف صباحا. قام شرطيان بمعاودة الحساب، وصاح أحدهما أن على المعتقلين الذين كانوا قضوا بضع ساعات أن يتقدموا نحو مكتب خاص للإدلاء ببيانات عن أسمائهم وعناوين سكناهم ومهنهم، كي يتم الإفراج عنهم؟
قال إن اعتقالهم كان احترازيا، لأن هناك لصوصا ومطلوبين للعدالة، كان يجب القيام بهكذا حملات للإيقاع بهم. بدا كلامه مقنعا للبعض وغير ذي جدوى بالنسبة للبعض الآخر. لكن الخلاص من اللحظة كان يفرض نفسه على الجميع.
تدافع «المتهمون» مع وقف التنفيذ يقدمون أنفسهم واحدا بعد الآخر، لكن شخصا زعم أنه لا يحمل بطاقة هوية ولا يتوفر على عنوان دائم رفض الامتثال للإجراءات. فرد عليه شرطي بأنه سيظل هناك قابعا في المعتقل إلى أن يقدم بيانات حقيقية بهويته. في غضون ذلك، جاء عميد ممتاز يعرف الوجوه والأسماء، لأنه ابن العاصمة الرباط، ولدى تأكده من هوية الشخص الذي رفض قيد اسمه، أخذه إلى مكتبه، فقد كان صديقا قديما له. أحضر له فنجان قهوة، ثم دعاه بلطف إلى مغادرة المكان، مؤكدا أن باقي أصدقائه سيحالون على وكيل الملك للإفراج عنهم.
دبت حركة غير عادية. فقد انتبه العميد إلى أن الرقم الذي سيحال على المحكمة الابتدائية ينقصه شخص واحد، لم يطل تفكيره، نادى على شرطي مساعد، قال له أخرج إلى الشارع وأحضر أول شخص مشبوه فيه لإكمال قائمة المائة وواحد وثلاثين. وكذلك كان، فقد مر بائع ورد ذلك الصباح بمحاذاة مركز الشرطة، ولم ينتبه إلى أنه تحول إلى رقم كان يتعين أن يكمل القائمة.
اقتيد المسكين إلى مركز الشرطة، وسجل اسمه وعنوانه ومهنته على قائمة المعتقلين، ردد أمام الشرطة أنه بريء وأنه مجرد بائع ورد، لا يتدخل في ما لا يعنيه. وغاب عنه أن استجداءه لن يغير شيئا من واقع أن القائمة يجب أن تكون مطابقة للإشعار الذي رفع إلى وكيل الملك. وكان أن حرص المعتقل الذي غادر مركز الشرطة على أن يدلف إلى مكتب وكيل الملك للمساعدة في الإفراج عن بائع الورد الذي اعتقلته الصدفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى