شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الوجه الآخر لكولومبوس 

في قناة «ديسكفري» أطلقت برنامجا يظهر الوجه الخفي والثاني لسلسلة من السياسيين العظام. وفيها عرفنا أن «كينيدي» كان يدخل العاهرات بالجملة من الباب الخلفي للبيت الأبيض، وأن «بوريس يلتسين» كان لا يستيقظ من فرط سكره، وأن قرار تدمير الشيشان كان تحت تأثير الفودكا. وأن «أنتوني إيدن» كان مدمنا على عقار (البنزدرين)، واتخذ قرار مهاجمة السويس لوحده. وأن «تشرشل» دعا الجنرالات إلى دراسة رش ألمانيا بالغازات السامة في ظروف الحرب العالمية الثانية. واليوم ينبش تراث وعظام كولومبوس لوضعه في الصورة التاريخية الحقيقية، ونعرف أنه كان استعماريا بغيضا، ولكن ضرب معه الحظ بأفظع من كل قمار ويانصيب وجائزة، فقد يفوز فرد بجائزة مليون دولار، أو يعثر فقير على ركاز، ولكن هذا الرجل أصابه الحظ على مستوى الجنس البشري، فقلب إحداثيات التاريخ والعالم ومصائر العباد، بدون أن يعرف ما فعل حتى موته. ومن كشوفاته امتلك الفقراء الأوروبيون أربع قارات وآلاف الجزر الغنية ما هو أكثر من مساحة القمر جنات ذات بهجة للناظرين، يعرفها من يطير فوق سماء كندا وشمال أمريكا، أو يرى غابات أمريكا الوسطى وحوض الأمازون.

وبذلك ومن المنظار التاريخي كانت رحلات (كولومبوس) بركة على الفقراء الأوروبيين وكارثة على الشرق، فقد حبس العرب في قمقم المتوسط وزحزح مركز الحضارة من المتوسط إلى الأطلسي. مع هذا ففي رحلته الأخيرة التي سماها الكبيرة «EL alto Viaje» كانت رحلة كارثية، أكل الدود سفنه الأربع ولم يفز بشيء، ولم يكتشف الممر المائي بين الباسفيك (المحيط الهادئ) والأطلنطي، وعاد إلى إسبانيا خالي الوفاض ولم يستقبله أحد، ومات بعدها بسنتين نكرة في بلد الوليد. ولكنها كانت ملحمة؛ فعندما وصل إلى «سانتو دومينغو» حَرَّمَ عليه «نيكولاس دي أوفاندو»، حاكم جزيرة إسبانيولا، أن يطأ الجزيرة بقدمه، والعاصفة تقعقع فوق رأسه، ولا يعثر على ملجأ، فكتب من هناك: «أي إنسان هذا الذي لا يموت يأسا وكمدا في مثل هذا المناخ ونحن نبحث عن ملجأ، فيحرم علينا دخول الأرض التي بذلت لها دمي وعرقي، حتى كسبناها بإرادة الله إلى إسبانيا». وكان قد بعث إلى حاكم الجزيرة خبرا مفاده أن عاصفة مدمرة تلوح في الأفق، ولم يكن من «أوفاندو» إلى أن ضحك من كولومبوس وقال لـ«دييغو مينديس»، قبطان سفينة «كابيتانا» الرسول: يبدو أن صاحبك كان بحارا فأصبح نبيا! وأخبره أن الأسطول في طريقه إلى إسبانيا. وجاء خوف كولومبوس من أن الأسطول الذي يضم ثلاثين سفينة فخمة تحمل منهوبات الجزيرة فيها سفينة تضم كل ممتلكاته الشخصية مما نهب وسلب من السكان، وما أن بارح الأسطول الميناء حتى جاءهم موج كالجبال فغرقت للفور 20 سفينة ومعها 500 بحارة إسباني، منهم «فرانسيسكو دي بوبا ديلا»، حاكم الجزيرة الأسبق الذي ألقى القبض على كولومبوس في رحلته الثالثة، التي اكتشف فيها ترينيداد وفنزويلا، وأرسله مكبلا بالأصفاد وأخويه إلى إسبانيا في أكتوبر 1500م. وكان ذلك بسبب شكوى الناس من استبداد كولومبوس وسوء معاملة الأهالي. ولم تصل من الأسطول إلى إسبانيا إلا سفينة واحدة هي سفينة كولومبوس، وضرب معه الحظ مرة أخرى. وتابع كولومبوس رحلته الأخيرة في جو مرعب لمدة 88 يوما لم ير فيها شمسا أو نجوما، حتى وصل سواحل أمريكا الوسطى. وأراد أن يعثر على ممر مائي يعبر منه من الأطلنطي إلى الباسفيك (المحيط الهادئ) وكان على مسافة 40 ميلا، حين رسا حذاء مصب نهر «شارجس» في برزخ «باناما»، حيث ستفتح القناة بعد خمسة قرون. ويروي ابنه فيرناندو الذي عاصر اكتشاف «فرانسيسكو نونيز دي بالبوا» الباسفيك، أن خطأ والده كان في تصوره أن الممر يجب أن يكون مائيا، وكان يجب عبوره على اليابسة في غابات باناما. وفي رحلته هذه اكتشف هوندوراس ونيكاراغوا وكوستاريكا وباناما وكولومبيا. كان مجموع رحلات كولومبوس أربع إلى ما سمي بالعالم الجديد، ولم يكن جديدا فقد كانت تقطنه شعوب ذات حضارة تزيد على 80 مليون نسمة، ولكنها (النزعة الأوروبية المركزية). اكتشف في الرحلة الأولى «سان سلفادور» (12 أكتوبر 1492م) وجزر «البهاماس» و«كوبا» و«هايتي» الحالية، وكانت قسما من الجزيرة التي سميت «إسبانيولا» تيمنا بإسبانيا، واستغرقت 193 يوما. وكتب كولومبوس في رحلته الأولى ملاحظة مشؤومة في مذكراته عن السكان الأصليين، الذين وصفهم المؤرخ الأمريكي «ديورانت» في سفره «قصة الحضارة»: «استقبلهم المتوحشون الذين سوف يستعبدون لاحقا استقبالا بدماثة المتحضرين». فجاء في يومياته: «إن هؤلاء الناس غير مسلحين، ويمكن لفرد منا أن يلحق الهزيمة بمائة منهم». وفي رحلته الثانية بعد أن اتفق مع الممولين في إسبانيا على تجارة العبيد قام باستكشاف بقية جزر بحر الكاريبي، فأسس أول مستعمرة في «سانتو دومينغو» في بقية الجزيرة والتي هي حاليا جمهورية الدومينيكان. وأضاف إليها اكتشاف جامايكا وبورتو ريكو. ومن غرائب ما حدث في الرحلة الثانية، أنه بحث عن أربعين رجلا تركهم في ضيافة السكان الودعاء مع رحلته الأولى، ليكتشف أنهم استولوا على نساء وأموال السكان الأصليين واستعبدوهم وتنازعوا فأفنوا بعضهم بعضا، ومن بقي على قيد الحياة انتقم منهم السكان الأصليون فأوردهم مورد الحمام. أما مصير سكان جزر الباهاماس المقدرين بخمسين ألفا من شعب التاينو فلم يبق منهم مخبر فقد أبيدوا جميعا. ويذكر «تزفتيان تودوروف»، في كتابه «مسألة الآخر»، أن مليونين من شعوب الكاريبي وثمانين مليونا من شعوب الأمريكيتين تم إفناؤهم بالبنادق والمدافع والجدري، فهذا هو الوجه الآخر للفتح المبين.

 خالص جلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى