المُفترسُ مُفتَرَساً
يعود بنا عنوان هذه الزاوية إلى رواية «المترجمة متَرجَمةً» للروائية الهندية «أنيتا ديساي». تبدأ الرواية بهذه الجملة المكثّفة التي تلخّص، في الحقيقة، العلاقة التي تجمع بين الكاتب ومترجمه: «لم تلتق السيّدتان وجهاً لوجه مذ كانتا في المدرسة سوياً…». وفعلاً فإن الموضوع هنا يتعلق بالمترجم الذي نُعت عبر العصور بكونه مفترس اللغات، مبتلعها وهاضمها، فتدور مع دورته الدموية.
حين يترجم المترجم فهو يمضغ النص المصدر، على قياس جملة قالها الشاعر الفرنسي يوجين غيوفيك، في ندوة بعنوان الكاتب ومترجمه: «حين نتكلم فنحن لا نقوم سوى بمضغ أمواتنا».
بهذا المعنى، الذي تبناه أيضاً «ألبير بنسوسان»، فإن المترجم يأكل لحم اللغات التي يترجم عنها. هكذا، أيضاً خاطب الشاعر الإيطالي «غويدو بيوفين» مترجميه: «كُلوني واجعلوني أدور داخل أبدانكم».
بعد سرد مقولات عن كون المترجم مفترساً بالمعنى الاستعاري للكلمة، نعود إلى موضوع ملفنا كون هذا المفترس يخضع هو بنفسه للافتراس حين لا ينال حقوقه وأجرته عن عمله. الناشر هنا هو المفترس، فهو يتربص به، ويسمعه ما يطربه من الكلام، إلى أن يمسك بمخطوطة ترجمته، فيبدأ يأخذ كل الألوان، خذ منها أنت ما شئت، أما أنا فسأختار منها الأسود. تُطبع الترجمة، لا يتوصل المترجم بالنسخ، ينتظر معرض الكتاب في بلده، يأتي الناشر، ومعه حجج قوية (وهي زائفة في الحقيقة) عن سوء رواج الكتاب، والمترجم منها على الخصوص. يعطي للمترجم نسخاً معدودة كأنه يعطي الخبز لجائع. ويعطيه وعداً بإرسال كامل الحقوق الأخرى في ما يستقبل من أشهر. يختفي الناشر إلى عواصم العالم العربي، ويبقى المترجم في زوبعة الرسائل.