شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

المهاجر الذي أنجد سقراط بنيويورك

 

 

مالك التريكي

 

كان جناح المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب من الأجنحة التي سررت بزيارتها، الأسبوع الماضي، في معرض الدوحة الدولي للكتاب. إذ إن لهذه المؤسسة الكويتية دورا مشهودا في خدمة الثقافة العربية المعاصرة، حيث دأبت، منذ خمسينيات القرن العشرين، على تزويد القارئ في البلدان العربية كافة بإصدارات شهرية قيمة تشمل مجلة «العربي» الغراء التي تعاقب على رئاسة تحريرها أفذاذ، مثل عالم الكيمياء الأديب أحمد زكي عاكف، وأستاذ الصحافة أحمد بهاء الدين. كما أخذت المؤسسة منذ أواخر السبعينيات في إصدار سلسلة كتب «عالم المعرفة» الشهرية، التي تجمع بين مؤلفات عربية جديدة وترجمات في مختلف مجالات المعرفة. ولا يزال عندي الكتاب الثاني الذي صدر في فبراير 1978 عن «اتجاهات الشعر العربي المعاصر» بقلم إحسان عباس رحمه الله، كما أني ما زلت أذكر الأثر البالغ الذي تركته في نفسي قراءة كتاب المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري، الذي صدر في نونبر 1980، بعنوان «تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي 1930-1970». ويحمد للكويت أن هذه الإصدارات تباع بأسعار رمزية، حيث إني ما زلت أشتري مجلة «العربي»، كلما زرت تونس، بالسعر ذاته الذي كنت أدفعه لما كنت ولدا يافعا: دينار واحد! وقد انضافت إلى فصلية «عالم الفكر» التي أسست عام 1970 (والتي كتب عبد الرحمن بدوي في عددها الثاني عن الثورة الفكرية المعاصرة في الغرب) مجلة «الثقافة العالمية» التي تنشر منذ عام 1981 ترجمات لطيف واسع من النصوص وتفرد في كل عدد ملفا لقضية من صميم الفكر العالمي المعاصر.

وكان مما فاجأني أن عدد يناير- فبراير 2023، المخصص لملف «الهوية من منظور الآخر»، قد تضمن ترجمة من إنجاز د. سمر مرسي (وهي طبيبة أسنان ومترجمة مصرية) لمقال نشره توماس تشاترتون ويليامز في مجلة «ذي أطلانطيك»، بعنوان «إنقاذ الكلاسيكيات من براثن سياسات الهوية». مفاجأة سارة لأن هذا بالضبط هو الموضوع الذي تناولته، أو بالأحرى لامسته مجرد الملامسة، هنا في عمود السبت الماضي: أي اقتحام لوبي «الووك» مجال الآداب والفنون، بعد سيطرته على قطاعات واسعة في الحياة العامة. ويتمثل هذا الاقتحام في انتشار ثقافة المظلومية وصعود موجة الرغبة الجامحة في الاستدراك السياسي النضالي على عيون الأدب الكلاسيكي والشعبي، وذلك بتنقيح نصوصه وتنقيتها من العبارات التي قد تعد مسيئة لبعض الأقوام مثل السود، واليهود، والنساء، والمثليين، والمتحولين، الخ.

ويتضمن مقال ويليامز، الذي رغّبتني ترجمة د. سمر مرسي الجيدة في العودة إلى أصله الإنجليزي، شهادات من ماضيه الشخصي ومن سيرة أبيه الأسود (الذي نشأ يتيما في تكساس، أيام كانت العنصرية ثقافة سائدة)، وسيرة روزفلت مونتاس المهاجر من أدغال جمهورية الدومينيكان (إلى مقاطعة برونكس في مدينة نيويورك) صاحب كتاب «إنقاذ سقراط: كيف غيرت أمهات الكتب حياتي، ولم هي مهمة للجيل الجديد» تثبت كلها أن التحرر الحقيقي لا يكون بتحويل الإنسانيات والفنون والآداب إلى ديوان مظالم وقاعات محاكم (ضد الرجل الأبيض، أو مالك العبيد، أو المستعمر، أو الإمبريالي…)، وإنما يكون بما يسميه الغربيون «التعليم الليبرالي» وما كان أجدادنا يسمونه ببساطة «طلب العلم» (الذي تجسمت قيمه بأبلغ الوضوح عند أمثال التوحيدي، والسجستاني، ومسكويه)، أي المعرفة ذات النزعة الإنسانية المنفتحة على كل المتون، منزلة في سياقها التاريخي المحدد.

أما الغرض الأول من طلب العلم فهو حسن الفهم. لأن حسن الفهم هو مبتدأ الاجتهاد في النصوص وأدنى قطاف العشرة معها. ولكن شباب النضال السياسي المدجج بسرديات المظلومية (التي لا ننكر وقائعها التاريخية طبعا، إذ إن الهجمة الاستعمارية شملت العرب والمسلمين، وهم لا يزالون ضحايا لآخر تعيناتها الكولونيالية في فلسطين)، يريد أن يقفز رأسا إلى النقد قبل الفهم! والنقد عنده أبدي، تماما كما أن المظلومية أبدية!

يروي مونتاس أنه لما كان فتى اعترضته ذات ليلة شتاء كومة من الكتب نبذت على الرصيف بانتظار عربات القمامة. كان يود أن يأخذها برمتها، ولكن بيت العائلة بلا رفوف، فاكتفى بمجلدين صادف أن أحدهما يحوي بعض محاورات أفلاطون. العجيب أن نص المحاورات هذا هو ذاته الذي حرر والد ويليامز من قيوده قبل ذلك بنصف قرن، تماما كما حرر مونتاس من بعد، فإذا بالفتى الفقير يصير أستاذا في جامعة كولومبيا، «ينقذ سقراط» (أي ينجده باستحضاره واستعادته) ويستضيف أبناء الأقليات إلى مآدب الكلاسيكيات.

 

نافذة:

التحرر الحقيقي لا يكون بتحويل الإنسانيات والفنون والآداب إلى ديوان مظالم وقاعات محاكم ضد الرجل الأبيض أو مالك العبيد أو المستعمر أو الإمبريالي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى