وجدت في كل المراحل أماكن اجتمعت فيها العقول وناقشت ما يجمعها وما يفرقها. وأحسن المراحل هي تلك التي عرفت فيها المقاهي اجتماعات أدبية، أو صنّفت فيها الكتب والمقالات والقصائد والروايات. فأصبح ذلك عنواناً على أفضل المجتمعات.
حمل اسم مقهى وسم تلك الحبوب الرائعة التي تطحن وتغلى وتقدّم على شكل مشروب في فنجان صغير. وأصبح في ما بعد كناية عن مكان عمومي تستهلك فيه مختلف المشروبات. قبل أن يقتحمه رجال الأدب والفكر للكتابة وتقديم الكتب وأمامهم مشروب القهوة، ويحيط بهم جمهور يستهلك نفس المشروب ويقتسم نفس الشغف. هكذا توج المقهى بسمعة أدبية خالدة.
مقهى بشرفة.. لأطلّ على العالم من علٍ
جعفر العقيلي *
* كاتب وناشر أردني
في ما أرى، بوصفي كاتباً، ليس المقهى مكاناً مغلقاً تتوزع فيه الطاولات والكراسي وتشتبك به الأصوات وحركة الزبائن دخولاً وخروجاً، بل إنه فضاء مفتوح، مفتوح على الحكايات والتفاصيل الصغيرة، تنسجها أرواح تهيم في اللامتناهي، وتفرض حضورها، ذلك أنها تتصل بحبل سُرّي بشخوصي الذين يقتادونني إلى مساراتهم وحواديثهم ومآلاتهم. في المقهى؛ وأنا من رواده منذ أيام الجامعة، أختار طاولةً تحاذي الرصيف ما أمكن. تجذبني المقاهي التي لا يفصلها عن الرصيف حاجز؛ وإن وجدت المقهى من هذه الشاكلة مكتظاً، أبحث عن مقهى بشرفة؛ لأطلّ على العالم من علٍ؛ العالم المصطخب بتجاور الأقدام، وتحاور الخطوات، وأصوات الباعة، وهمسات الصبايا، وضحكات الشباب في عمر اليفاعة، ونداءات الإشهار باللهجة المحكية لاجتذاب الزبائن. المقهى مختبري الأثير. مختبر الكتابة وورشتها. وفيه أنصت إلى نداءات الداخل حين تندلع شرارة الكتابة، وتنهمر التفاصيل –سرداً أو شعراً. ولهذا، لا غرابة أن يحضر في قصصي بطلاً، كما في قصتي «هزائم صغيرة.. هزائم كبيرة»، فهو المكان الذي يرسم خطوات البطل.. المكان الذي له روحٌ. هو كائنٌ أيضاً، وله سماته وخصوصيته، وله جوّانيته التي أحاول فضَّها وسبر أغوارها، ليبدو بطلاً هو الآخر. حتى في قصائدي، بخاصة في البواكير، يصرّ المقهى على الحضور
«مَن أنت؟
مَن أنت بلا وجهٍ..
بلا أسئلةٍ تفضحُ سرَّك؟
ها أنت، ترقبُ
من ناصية المقهى
طلّةَ أنثى
تنأى
تنأى
وتصيرُ بعيدةْ
مَن أنت؟
مَن أنت إذن..
دون قصيدة؟»
المقهى الذي كنا نطارد فيه المعنى
محمد الحباشة *
* كاتبٌ من تونس
كُنّا مجموعةً صغيرة من المُتمرّدِينَ في مدينةٍ فِلاحيّة على ضفاف المتوسّط، تكادُ لا تعرفُ أنّها على ضِفاف البحر من قلّة توفّر أدواتِ الحياةِ فيها. مُتمرِّدون لأنّنا تلمّسنا مُبكِّرًا وسائل حياةٍ خاصّة بنا، أو بالأحرى ابتكرناها، حتّى تكون الإقامةُ في العالم ممكِنةً، وهي وسائل الأدب والفنِّ دون غيرها، في مدينة لا تعني لها هذه الوسائل شيئا، إذا لم نقل أنّها تُدِينها، وتحشرُ كلّ من يمارِسها في زاوية. كانت الكتابة والموسيقى هي المعنى، وكان هذا المعنى يتجسّدُ في جلساتنا اليوميّة في مقهى «محمود التّونسي» الثّقافي بمنزل تميم. كان ملاذًا لمجموعتنا أو «لعصابتنا» الصّغيرة – الكبيرة، لقراءة آخر قصص كتبتُها أنا أو شقيقي بهاء الذي وجد طريقه في الطبّ لاحِقا، ولعزفِ العود والغناء فعادة ما يصطحب الفنّان معتز غرابة، صديقي ورفيق دربي منذ نعومة الأظافر، عُودهُ لُيُطربنا بآخر ما تعلّمهُ في الكنسرفاتوار أو ما أدركه بمُفرده من معزوفاتٍ وأغانٍ. ولم تكنُ تخلُو هذه الجلساتُ من أحاديث في الفلسفة والأفلام والسّياسة، لاسيّما إذا زارنا واحدٌ من مثقّفِي المدينة الكبار مثل جلّول عزّونة أو جلّول ريدان أو مهدي غرابة أو عادل الحدّاد وغيرهم، فتأخذ الأحاديثُ والنِّقاشاتُ منحًى فكريّا بحتًا. كان المقهى متنفّسًا لنا إذن، من خِناقِ المدينة المُحافظة والقامِعة. ولم نُسلم لها أبدًا أرواحنا وعقُولنا، وظللنا نُقاوِمُها بطاقة التمرّد المُتجسِّمة حتّى في اللّباس ومُخالفة العُرفِ به. كان المقهى – النّادي، بصاحبه البشوش الصّادق الخياري، الذي يُسارع باستقبالنا بحرارة ابتسامته وقهوته التركيّة، بِمثابةِ الرّوح التي وجدناها في مدينة فاقدة للروح. لعلّنا كنّا نحن تلك الرّوح «المُقاتِلة» بالإبداع والمعرفة، رغم التّهميش المتعمّد للمكان من قبل بعض المسؤولين. بالرّغمِ من أنّه سمّي باسم واحدٍ من أكثر النّاسِ نزاهةً ممّن مارسوا مسؤوليّة يوما مّا، القاصّ والرسّام والمثقّف الكبير محمود التّونسي، واحِدٌ من مؤسِّسي نادي القصّة، وصاحب المجموعة القصصيّة «فضاء» الشّهيرة، التي تُعدّ واحدة من أهمّ كتابات التّجريبِ في تونس والعالم العربي.
كبرنا ووزّعتنا سُبُلُ الحياة. ولكنّ شُعلةَ التمرّد لم تنطفئ. كيف لا ونحنُ مازلنا نُطارِدُ المعنى حينا ونخلُقُه حينا آخر كلّ في مجال إبداعه. مازلنا نذكُرُ ذاك المقهى النّبيل وكلّ من مرّ عليه، بحنين كبير حينا وبكثير من المرارة حينا آخر، بسبب مواصلةِ تهميشه ثمّ طردِ صاحبه، كي يتحوّل في النّهاية إلى محلٍّ لبيع الكحول.
هنا الاستقرار والتجانس والأحلام المشتركة
محمود الريماوي
يتراءى لي أن ظاهرة المقاهي الأدبية في عالمنا العربي تتراجع ويخفت حضورها ونشاطها، إذ أن نشوء هذه الظاهرة الاجتماعية ـ الثقافية (والاقتصادية) يرتبط على الأقل بحد أدنى من الاستقرار العام والتجانس الاجتماعي وبانتظام حياة الطبقة الوسطى، وبضمان الحق بحرية التعبير والحق في التجمع. إضافة إلى عوامل أخرى مثل استقرار هندسة وتخطيط العواصم والمدن، وحيازة مشروع وطني مُلهِم يحفز على التلاقي والجدل.
تتراجع هذه العوامل في ضوء تحولات شتى سلبية في محصلتها، فالعواصم والمدن الكبيرة باتت نهبا للترييف، ووهج مراكز المدن يخبو مع نمو الأطراف نموا شبه عشوائي من غير أن تصير هذه الأطراف مراكز بديلة. وتتعرض الطبقة الوسطى لمخاطر الإفقار، فيما يجنح بعض شرائحها للالتحاق بطبقة أعلى، وتضيق حريات التعبير والتجمع مع تكاثر السلطات المركزية والاجتماعية والدينية. فيما يغيب الاستقرار العام مع بروز مخاطر النزاعات الأهلية وانعكاسات ذلك على تمزق الوشائج الاجتماعية وعلى الروابط التي تجمع الأدباء والمثقفين.
هل نتخيل في مثل هذه الظروف أن تبقى ظاهرة المقاهي على حالها في بيروت وفي دمشق وبغداد، وبدرجة أقل في القاهرة، علما أن الظاهرة لم تشهد ازدهارا من قبل في عمّان.
في أزمنة غابرة كان يتم هجاء ظاهرة الشلل (الجماعات) الثقافية التي تنغلق على أعضائها، غير أن تلك الظاهرة على سلبيتها كانت تحوز على قيمة إيجابية وهي الأطر الجماعية للصداقات والعلاقات الثقافية، وقد حلّت بدلاً من ذلك، ظاهرة التمحور الفردي على الذات ونعي الصداقات والاستغناء على العلاقات.. ولئن كان من الصحيح أن الإبداع، معاناةً وإنتاجا، هو فردي، غير أن الحياة التي يمتح منها المبدع ذات طابع جماعي، وهي حياة الجماعات والمجتمع برَمته، والإنسان كائن اجتماعي بطبعه على ما ذهب ابن خلدون.
وقد أضيف إلى ما سبق سطوة وسائط الاتصال الحديثة التي غذّت نزعة الانعزال والانكفاء منها، فانجرف أدباء كثر بلا عدد إلى هذا التواصل الافتراضي، وجعلوا من صداقاتهم الحقيقية (التي كانت تجد في لقاءات المقاهي ميداناً ومتنفسا لها) صداقات افتراضية، وقد جمعوا بذلك تحت خيمة هذا الافتراض بين أصدقاء العمر، وأصدقاء أشباح في أقصى أماكن الأرض.
المقاهي الأدبية.. فكرة جميلة ينقصها الانتظام
شكير نصرالدين *
* ناقد ومترجم مغربي
كانت هناك دوما حاجة إلى تبليغ الأدب والفكر ومقاسمتهما، منذ مجالس الملوك والأمراء والوزراء وغيرهم في التقليد العربي أو من خلال الصالونات الأدبية في التقليد الغربي التي كانت ترعاها شخصيات من طبقة الأرستقراطية والبرجوازية، ومن أدباء ومفكرين، في التقليد الغربي، إلا أن جمهور المتلقين كان دوما نخبويا من الخاصة والحاشية أو من ذوي الاهتمام المباشر، في نواد خاصة مغلقة على عموم الجماهير. ورغم ظهور مؤسسات تسهر على إشاعة الأدب والفكر ورعايتهما مفتوحة على الجمهور الواسع في فضاءات تتصل من قريب أو من بعيد بمؤسسات رسمية مثل دور الشباب التابعة لوزارات الثقافة والشباب والرياضة وغيرها أو مقرات هيئات حزبية أو نقابية، أو في الحالة المغربية فروع اتحاد كتاب المغرب، فإن أدوار هذه الفضاءات شهدت في مرحلة ما تقلصا وندرة ثم اندثارا يكاد يكون تاما، في هذه الظروف ظهرت فكرة إحياء المقاهي الأدبية كما عرفتها بلدان غربية، وكان أن بدأت تظهر ثم تختفي بعض المقاهي الأدبية تحت مسميات عديدة أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر تجربة الصالون المغربي الأدبي بالدار البيضاء الذي كان من التجارب الأولى في فضاء العاصمة الاقتصادية وقد شهدت هذه التجربة نجاحا كان مؤقتا مع الأسف، لا أدري ما الأسباب التي جعلت أنشطته تضطرب، بعدما كانت منتظمة أول الأمر ثم توقفت؛ هناك أيضا تجربة «ريشة وقلم» التي كانت تلتئم في مقهى مقابل لمحطة قطار الدار البيضاء الوازيس وإن كانت غير منتظمة فإنها رغم بيات كورونا عادت لتقدم أنشطة أدبية مهمة.
عن كتاب قهوة في كل مكان
محمود الرحبي *
* روائي من سلطنة عمان
تحضر القهوة وتغيب المقاهي العمانية في كتاب «قهوة في كل مكان» الصادر في مسقط عن منشورات نثر، المشتمل على نصوص عابرة للفضاء العماني، حتى بالنسبة للكتاب العمانيين الذين يستحضرون علاقتهم مع مقاهي العالم، وكأنما لا يمكن للكاتب العماني أن يكتب عن المقاهي دون أن يفتح صفحات الذاكرة، الكتاب زاخر بالكثير من الأحاسيس والعديد من أسماء المقاهي، كما يزخر بمشاركات متعددة عمانية وعربية: إبراهيم سعيد الذي يشتاق يشرب القهوة ليتذكر، وقد صادف شيخًا ينفخ في فنجان قهوة ليسقيه طفلا «لأن القهوة تزيد الفهامة» وحمد الصحبي الذي استحضر «مقهى الفارسي في بركاء وبغداد ومقهى الحافة في طنجة»، وحمود الشكيلي الذي بدأ في أواخر العقد الثاني يعد القهوة العمانية بنفسه، ولم يتخلَّ عن الدلة السوداء ذات علامة الفيل القديمة، التي صارت رفيقة جلسات المساء في بلاد صور، حيث كان يقضي أعوام دراسته الجامعية. الكاتب والمترجم المغربي سعيد بوكرامي، تحت عنوان «هيا لنشرب القهوة» الذي لا يسافر إلا قليلًا: «لم أغادر الدار البيضاء إلا في مناسبات قليلة جدًا فرضتها علي ظروف عائلية أو ثقافية» وذلك لأن «المقهى سفري، والقهوة متعتي الوحيدة خارج البيت» تحرره كما يقول من «ضغينة العالم ومن ضجري في مدينة تقهقر جمالها واندحرت قيمها». وفي هذا المقال الأشبه بدراسة مختصرة، يستعرض بوكرامي علاقة بعض كتاب العالم بالقهوة، من بلزاك إلى فولتير، وآرثر رامبو، وجان بول سارتر ومحمود درويش الذي يعتبر القهوة «شقيقة الوقت».
وسعيد سلطان الهاشمي الذي يختصر العالم في هذه الفقرة «القمر في السماء والقهوة في الأرض» في نص مكثف يجول من خلاله في دهاليز الذاكرة مستعرضا علاقته الزمنية بالقهوة بين «طفل البارحة وكهل اليوم» حين كان يشتريها من دكان البانياني وهو طفل، ثم «الشاب الذي صار كهلًا، ارتحل كثيرًا في المسافة والمجاز، وبقيت القهوة السحر والسر المرتبطين بكل مدينة وقرية، ناصية وشارع، محطة وميناء، مطار ومرسى، حديقة وحقيبة».
القاص والروائي التونسي سفيان رجب يوصينا بألا نتحدث قبل أن نشرب قهوتنا، وهو يحب احتساء القهوة في المقاهي المكتظة بالضجيج ودخان السجائر وصوت ضرب الكفوف على الطاولات لأنها: «تعيدني إلى الجو الشعبي الذي تبدأ منه القهوة دورتها في حقول القهوة في البرازيل وفي الهند، وفي الأكواخ الأثيوبية التي تطحن فيها حبات القهوة السوداء».
وصالح العامري ينثر لب آصرته مع «شجرة البن الهفهافة» حيث تكون كل رشفة «طلوعًا على فلقة قمر أو لألأة نجمة».
يسرد بعد ذلك الشاعر العماني عبد يغوث علاقته بالقهوة العتيقة التي تعود به إلى طفولته في السبعينيات. حينما كان يقضي الصيف بين النخيل، وتلك النخلة التي كان والده يعلق عليها ماكينة طحن القهوة. يروي لنا في نصه المكثف التقاطاته للخطوات البطيئة لتحضير القهوة التي تحتاج إلى صاحب (نفس ومزاج) والتي لا يعرف سرها إلا (الذويقة) التي كأنها ثغر حبيبة حين شربها والده آخر مرة. في ما يلي يسرد لنا آخر فنجان شربه أبوه في سرير المستشفى: «أتأمله الآن على سرير المشفى وهو يتذوق بمهجة وداعية آخر فنجان قهوة له في حياته، أخذ يرتشف الفنجان وكأنه يرتشف ثغر الحبيبة، يتأملنا ويتأمل الفنجان، يدوره بين الرشفة والأخرى كأنها الأبدية، وحين انتهى هز الفنجان، تلك الهزة الخفيفة علامة الاكتفاء مع كلمته المعتادة «أحسنت» دخل بعدها في غيبوبة».