المغاربة والخمر…….تاريخ من التناقضات والاغتيالات والأموال «الحرام»
الأخبار
«كان قادة الحركة الوطنية، خصوصا في فاس، يمثلون تيارا محافظا جدا. إلى درجة أن حزب الاستقلال كان يوجه أطره نحو تنفيذ اغتيالات طالت فرنسيين ومغاربة أيضا. إذ كانت الأوامر الصادرة من القيادة تقول بضرورة قتل كل من كان يبيع السجائر، ومعاقبة كل من ضُبط متلبسا يتعاطى الخمر محلية الصنع. وقد نفذت بعض المجموعات المسلحة، منذ بداية الخمسينات عمليات اغتيال واسعة طالت فرنسيين ومغاربة، يشتركون في تهمة الاشتغال في ضيعات صناعة الخمور، أو في محلات بيعها التي أسست بالدار البيضاء منذ ذلك التاريخ.
وقد اعترف عدد من قادة الحركة الوطنية لاحقا بأنهم كانوا غير متسامحين مع المغاربة، الذين اشتغلوا في صناعة الخمور، وأعطيت الأوامر لتصفيتهم جسديا والتمثيل بجثتهم حتى يكونوا عبرة لكل من يفكر في التعامل مع الفرنسيين، خصوصا في مجال صناعة الخمور».
+++++++++++++++++++++++++++++++++++++
زوابع دولية أثارها تعاطي الخمور بين المغاربة
سيكون مضحكا أن تعلموا مثلا أن الحكومة التي يقودها حزب بمرجعية إسلامية، دعا المنتسبون إليه في أوقات سابقة إلى القطع مع عائدات الخمور، يعتمد عليها اليوم لإنعاش الخزينة.
تثير أرقام استهلاك المغاربة للخمور تساؤلات كثيرة بشأن التناقض الكبير بين ظاهر المجتمع المحافظ المجرّم لاستهلاك الخمور، وبين حقيقة الواقع الذي تقدمه الأرقام. هذه الأرقام تحدد كمية استهلاك المغاربة للخمور بملايين اللترات سنويا، وضخ ملايير السنتيمات في خزينة الدولة من الضرائب المُستخلصة من تجار الخمور وتسويقها في المغرب.
كان المغاربة دائما ضد ترويج الخمور. وفي تاريخ المغرب، كان هناك دائما تجريم لتعاطي الخمور. حتى أن أحد أوائل القناصلة الأجانب في المغرب، يتعلق الأمر بالقنصل الأمريكي السيد هولت، كان قد كتب للبيت الأبيض تقريرا مفصلا عن علاقة المغاربة بالخمر، وقدّم نموذجا لمغربي كان قد قضى فترة قصيرة في الولايات المتحدة الأمريكية عمل خلالها مستخدما لدى أحد الأثرياء الأمريكيين وعاد إلى المغرب يحمل معه «إدمانا» على استهلاك الخمور، وهو ما جعل القنصل الأمريكي سنة 1908، يكتب عن حالته تقريرا مفصلا أرسله إلى وزير الخارجية وقتها، وكان التقرير سوداويا عن «الحريات» في المغرب القديم. من بين ما يمكن استخلاصه من التقرير ما يلي:
كان القضاء المغربي موضوع نقاشات كثيرة في أوساط الأجانب بالمغرب. ليس لأنهم كانوا يتخوفون منه، فقد كانوا غير خاضعين له، لكن التخوف كان من ارتفاع نسبة الكره الذي كان أغلب المغاربة يكنونه للأجانب، ولم يكن في القانون المغربي وقتها ما ينص على عقابهم.
يتحدث القنصل هولت عن مشاكل موظفي المحاكم المغاربة سنة 1909، كما عايشها على حد قوله، وهنا يتحدث عن قضية تورط فيها شخص اسمه علي، ولديه قصة مثيرة تستحق أن تُروى. هذا الرجل كان يعمل، كما يبدو، مرشدا للسياح الأجانب بالمغرب. كان يفرط في الشرب، بالإضافة إلى أنه كان شديد الذكاء ويتحدث لغات أخرى بالإضافة إلى العربية. يقول هولت في بداية تقديمه لشخصية علي محمد، الذي اعتقل على خلفية السب والشتم في مكان عمومي: «لم أستطع فهم انطباعات الموظفين المغاربة، ولا تقديرهم للأمور، لذلك فضلت أن أحضر المحاكمة بنفسي. وبالتالي، فقد سمعت أطوارها في قاعة المحكمة. وزير الحرب، والمسؤول عن الشؤون الخارجية يزكيان التهمة ضد الأمريكي، عن طريق أحد عبيدهم، واسمه علي.
كانت الجلسة مفتوحة. وسمعت التهم، وتم استدعاء 20 شاهدا من بين شهود القضية. عشرة من هؤلاء الشهود أقسموا أن علي محمد كان سكرانا ولم يكن واعيا بتصرفاته. والعشرة الآخرون أقسموا أنه فقط كان غاضبا.
المثير في القضية أن المحكمة هي التي أحضرت العشرة، الذين أقسموا أن عليّا لم يكن سكرانا. بينما أحضر علي نفسه أصدقاءه لكي يشهدوا أنه كان في وضعية غير طبيعية قبل اعتقاله».
كانت الطريقة التي تتعامل معها الدولة وقتها مع المتعاطين للخمور، موضوع نقاش في أوساط أوربية خصوصا بطنجة التي كانت منطقة دولية، وكان هناك تخوف كبير في أوساط الأجانب من أن تطالهم عقوبات أو اعتداءات إن هم مارسوا حياتهم بحرية وسط المغاربة. وكما سنرى في هذا الملف، فإن ورقة علاقة السلطات في المغرب بتجريم استهلاك الخمور، سوف يتم استغلالها لاحقا لإنزال العقوبات بأطراف تنتمي إلى المقاومة.
مغاربة ورثوا أموال الحانات ورخص الاستيراد
نحن في سنة 1956. كان الفرنسيون يستيقظون كل صباح على إيقاع أخبار رحيل جماعي من المدن المغربية نحو فرنسا، تاركين خلفهم عقارات وممتلكات تعذرت تصفية وضعيتها القانونية قبل رحيلهم. وهكذا استولى عدد من المغاربة على تلك العقارات، واستغرق الأمر منهم سنوات قصيرة فقط، قبل أن يحسموا في وضعيتها القانونية لصالحهم ويصبحوا ملاكين و«برجوازيين» جدد بعد الاستقلال.
كان بعض الفرنسيين، من بينهم السيد «دو شاطو» الذي حاول استرجاع ممتلكاته، خلال بداية السبعينات، لكنه اختفى في ظروف غامضة، ووجهت عائلته أصابع الاتهام إلى موظفين كبار في الدولة، اتُهموا بالاستعانة ببعض موظفي الأجهزة السرية لتصفية رجل الأعمال الفرنسي، الذي جاء إلى المغرب للمطالبة باستعادة أمواله.
كان هذا المواطن الفرنسي واحدا من كبار تجار ماركة فرنسية شهيرة للخمور. كان صديقا مقربا أيام الحماية لمستشار السلطان المولى يوسف، وهو الذي توسط له لكي يفوز برخصة موقعة من الإقامة العامة الفرنسية، لكي يحتكر طيلة 15 سنة استيراد نوع فاخر من النبيذ، يتم تسويقه في الفنادق المصنفة والحفلات الرسمية التي كانت الإدارة الفرنسية تنظمها على شرف ضيوفها الأجانب، أو في احتفالات وطنية فرنسية.
راكم رجل الأعمال إذن ثروة كبيرة، كان يؤدي عنها ضرائب لصالح الإقامة العامة الفرنسية ولصالح الحكومة الفرنسية، إذ كان بقوة القانون مجبرا على احترام بنود اتفاق يجمعه بالشركة الفرنسية، التي كان مقرها في الجنوب الفرنسي.
بالإضافة إلى منافسة كبيرة بين عدد من تجار الخمور الفرنسيين بالمغرب، بدأت منذ سنة 1916، بالضبط في شهر يونيو، عندما وُضع مقترح لدى الإدارة الفرنسية بترخيص استغلال ضيعات فلاحية مغربية لزراعة الكروم، وتأسيس مخازن واستيراد معدات من فرنسا لصناعة خمور محلية مغربية بتكلفة منخفضة عن تكلفة استيرادها من فرنسا.
وكان رجال الأعمال الفرنسيون يتسابقون في ما بينهم من أجل الفوز بأكبر عدد ممكن من الضيعات الفلاحية، خصوصا في نواحي مدينة مكناس. لكن الإدارة كانت قد أجلت المشروع لفترة، بذريعة أن الهاجس الأمني كان أهم عندها من تشجيع استثمار رجال أعمال فرنسيين داخل المغرب.
وفي سنوات الثلاثينات والأربعينات، كانت فرنسا قد بدأت في الترخيص لشركات أجنبية لكي تخزن الخمور في مستودعات خاصة، وقدمت لها حماية الإدارة. وهو الأمر الذي جعل رجال الحركة الوطنية يدخلون في معركة «مقدسة» مع لوبيات تجارة وترويج الخمور في المغرب، رغم أن ظهيرا سلطانيا صادرا من القصر الملكي قضى بمنع بيع الخمور إلى المغاربة.
كان رجال الحركة الوطنية وأعضاء الخلايا السرية للمقاومة، قد وضعوا لوائح بأسماء المغاربة، الذين كانوا يعملون في الحانات أو في مخازن الخمور التابعة للشركات الفرنسية، لكي يتم اغتيالهم. حتى أن بعض المنشورات التي كانت تصدر باسم حزب الاستقلال في سنوات الخمسينات، كانت تدعو إلى الانتقام من كل المغاربة الذين يشتغلون لصالح الفرنسيين في تجارة الخمور واستهلاكها، بل حتى ترويج السجائر. علما أن عائدات تلك التجارة، كانت تعود على خزينة الدولة وقتها بملايين الفرنكات، وبعد الاستقلال كانت الضرائب التي يتم جنيها عن هذه التجارة تقدر بملايين الدراهم، رغم التحفظ الكبير الذي أحيط بها. ولعل من المفارقات المضحكة أن حكومات في تاريخ المغرب كان يقودها حزب الاستقلال أو يشكل الأغلبية داخلها، كانت تعتمد في وضع الميزانية على عائدات الخمور والضرائب المفروضة على علب السجائر المستوردة لإنعاش الخزينة.