المرصــد الوطني للقراءة والمعرفة
في فرنسا، وهي النموذج المحتذى لجميع أجهزتنا الإدارية، تم إحداث «مرصد وطني للقراءة» أسندت إليه مهام بيداغوجية، وألحق بوزارة التربية والتعليم ضمن هيكلتها واختصاصاتها.
أما عن الطبيعة الثقافية لمبادرة مرصد يهتم بالقراءة، فتوضيحها كما يلي:
– باعتبار أن الإشكاليات الثقافية بقيت بعيدة عن الهم السياسي، وخارجة عن الاهتمامات الحزبية والنقابية، فإن الدولة بدورها ظلت تتعامل مع الثقافة كترف لا يدخل ضمن الأولويات.. وكانت النتيجة المنطقية لذلك، هي تناقص دور وقيمة المؤسسات الثقافية والإعلامية والأكاديمية واضمحلال تأثيرها على المجتمع. وكانت صعوبة الحصول على معطيات عددية، من أهم العناصر التي أبعدت البحث الأكاديمي عن الاهتمام بالميدان.
– أخطر ما وصلت إليه الوضعية، هو إحداث قطيعة بين المنظومة التربوية وبين البعد الثقافي والمعرفي، مما أدى إلى إفراغ التكوين والتعليم من العمق الثقافي. وهذا هو السر وراء المستوى التعليمي الحالي، وبين العزوف عن القراءة كسلوك مقبول اجتماعيا.
– أحس بعض الوزراء، منذ بداية حكومة عهد التناوب، بهذه الثغرة فحاولوا تعويضها بإصدار عدد من المذكرات بوزارة التربية، مثلا تدعو للاهتمام بالمكتبات المدرسية ضمن مكونات العمل التربوي، لكنها لم تكن ذات مفعول ملموس، لأن تأثيرها كان فوقيا ولم يصل إلى ملامسة عمق الإشكالية، وخاصة عندما صدر «الميثاق الوطني للتربية»، الذي حذر من تقزيم مرجعية الأستاذ والكتاب المدرسي، باعتبارهما المصدر الأساس (الوحيد) للتربية.
– اتضح من هذه الثغرة أن هنالك خوفا من سلطة الثقافة الطاغية. ولذلك اعتبرت السياسات التربوية أن من الأفضل لنا أن ننتظر مرور عواصف العولمة، بخيرها وشرها، ونبتعد بذلك عن تأثيرات التساؤلات الفلسفية حول هويتنا ومرجعياتنا ومكونات شخصيتنا الوطنية.
– هكذا إذن، نجد أنفسنا بصلب تيار جارف ذي نزعة ثقافية، يرمي ضمن أهدافه لإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي، أي إعادة الجسور بين المنظومتين التربوية والثقافية، لأنهما ركنان لا غنى عنهما لأي نسق تربوي فعال.
أما بخصوص الجانب التقني للمبادرة، فتعود جذورها إلى فترات سابقة:
– فعندما أنشئت «مدرسة علوم الإعلام»، جرى التمهيد لتأسيسها بإجراء بحث ميداني أشرفت عليه الوزارة الوصية، أي وزارة التخطيط، بمساعدة وتوجيه من منظمة اليونيسكو. وخرجت الدراسة بوجود حاجة ماسة إلى هذا النوع من الأطر، في مجال تدبير المكتبات ومراكز التوثيق والأرشيف، تقدر بحوالي 1500 إطار. وقام البحث على استكناه حاجيات إدارات مختلفة، من بينها الثقافة. ولم تكن التربية الوطنية من اهتماماتها. جرى ذلك في بداية السبعينيات من القرن الماضي.
يمكن اعتبار هذه الخطوة النادرة هامة في إطار البحث عن بلورة سياسة ثقافية، لو أنها كانت مصحوبة بإعادة الاعتبار المعنوي للخزانات والمؤسسات الثقافية المكلفة دستوريا وتشريعيا بتقديم خدمات علمية ومعرفية للمواطنين، لكي تستعيد جاذبيتها وتتحول إلى محفز يستقطب نحوه معظم الخريجين. لكن النتيجة هي أن عنصر التحفيز بقي غائبا، فتشتت الخريجون في بقاع الأرض، وأهدر تكوينهم في معاملات إدارية صرفة لا علاقة لها بالتكوين.
– هكذا يتضح أن معضلة القراءة مشكلة بنيوية وهيكلية، وأن جميع الإجراءات مجرد ترقيعات لا أثر لها على ارتفاع نسبة المقروئية ولا على انتشار الكتاب.
– ثمة شعوب لا يتجاوز عدد سكانها 5 إلى 10 ملايين نسمة، لكنها استطاعت أن تتغلب على مشاكل قلة الإقبال على القراءة، ويتعلق الأمر بالدول الإسكندنافية وفنلندا وهنغاريا، وبولونيا إلى حد ما، وسنغافورة بآسيا. وكلها بلا استثناء، دول ذات حضور قوي في الساحة الثقافية والفنية والعلمية، ونسب براءات الاختراع فيها مرتفعة جدا. أما السر المعتمد فيرجع إلى:
– كونها اتبعت سياسات تهتم بتأسيس العدد الكافي من المؤسسات والبنيات المكلفة بتقديم خدمات القراءة، وتتبع المنتوجات العلمية والمعرفية. وانكبت على نقل الإبداع والمعارف الكونية إلى لغاتها، وشجعت على الانخراط الكثيف فيها، حتى تجاوزت نسبة تغطيتها للمواطنين المنخرطين ما يفوق 80 في المائة، كما حال الدانمارك والسويد مثلا، وربطت كل ذلك بمراجعة برامجها التعليمية لتواكب بدورها المستجدات… وأعطت للعاملين في هذه البنيات الوضعية الإدارية والتربوية نفسها، التي يتمتع بها رجال ونساء التعليم.
– في البداية، كان الاتجاه هو محاصرة وزارة الثقافة، باعتبارها المسؤول عن القطاع. لكن ثبت أن الاتجاه خاطئ، باعتبار أن الدولة وكل الحكومات لا تتوفر على سياسات منسجمة وشاملة لمعالجة الإشكالية، وفهم الميكانيزمات المتحكمة فيها. فالمعضلة عامة، ويتحمل مسؤوليتها الجميع، وعلى الدولة أن تتعامل مع القطاع ومع موضوع القراءة العمومية كمكون لا ينفصل عن المكونات التعليمية والتربوية، وأنه أمر مطروح على كافة الوزارات (الثقافة كمشرف على السياسة، والتعليم، والشبيبة والرياضة، والداخلية، والفلاحة، والعدل وإدارة السجون، والصحة، والنقل، والإعلام…).
– تأكد أيضا أن المجتمع مطروح عليه أن يتحرك لخلخلة الركود. وأن عليه أن يقوم مقام «المفتشية العامة» لوزارة الثقافة، التي لا تعبر عن حضورها ولا تنجز مهامها. وأن يقود التوجه نحو أهمية الحكامة والتقييم في المجال. ويملأ الفراغات التي يعاني منها الميدان، وتشتكي منها جمعيات ومنتديات ومنظمات دولية. الشيء الذي يؤثر على مستويات ترتيب البلاد، في تقارير الأمم المتحدة للتنمية البشرية.