المرح كخطة نجاة
جهاد بريكي
ما عادت تخيفني السنوات ولا زحفها المتواصل، كل ما يحصل أني أُلقن الدروس وأغير القناعات كل يوم، إني وبنوع من اليقين أعتقد أن المرحين من أبناء آدم وبناته هم الأقل تأثرا بالأحداث السيئة والمآسي وما يماثلها من مسرات تخفي وراءها أحزانا عظيمة، وهم الأقرب للتعافي وتجاوز الصدمات، والأشد خفة في الانتقال من وضع إلى آخر. المرَح، أو روح المرح هي لا شك نعمة علوية قد تمنح للشخص دون جهد منه وقد يحرم منها، فطرة يأتي بها الطفل من ظلمات رحم أمه، أو لا يأتي بها. إلا أن طاحونة الحياة الدائرة لها أيضا دور مصيري في تحديد إن كان المرِح سيظل مرحا أم أن طفرة الجدية القاتلة والعبوس المرضي ستنهشه كما تنهش كلاب ضالة جثة قط سمين.
حياة امرأة أربعينية تشبه جدتها كثيرا لدرجة جعلتها تكتسب احترام العائلة. شبه ثقيل يضع على عاتقها مسؤولية كبيرة، فالشبه لعنة الأبناء الراغبين في الانسلاخ من عباءة آبائهم، حتى وإن نجحوا في ذلك، ذكرتهم صورهم على المرايا كل يوم بأنهم خذلوا أسرهم ومرغوا وجوههم في التراب. موظفة بمصلحة الضرائب، زوجة وأم لطفلين ومدينة لصديقاتها بقروض كبيرة وصغيرة مازالت عاجزة عن سدادها. تسأل حياة نفسها كل يوم كيف وصلت إلى هذه المرحلة، وأين كان عقلها عندما كانت تقدم كل تلك التنازلات!؟. شعور واحد يلازمها منذ زمن بعيد، هو شعور شخص هوى من مزلجة بعلو شاهق يقطع الأنفاس، فبلغ القاع المظلم، ثم أغمي عليه. حياة الشابة العشرينية تختلف اختلافا تاما عن حياة المرأة الأربعينية التي تنكمش داخل أثواب ثقيلة وسلاسل أثقل. كانت مرحة كفراشة متحمسة لمزيد من الرحيق، مبتهجة كوردة تمنح الرحيق للقادم الأول، ترى في الدعابة فلسفة وأسلوب عيش، تواجه بها العوائق والمتاعب. رفقتها كانت تبعث على الأمان، ووجودها مصدر بهجة دائمة لمن حولها، يقتدي بها الكبير في طفولتها والصغير في اندفاعها. يمكننا القول إن حياة رُزقت روح الدعابة ومنحتها العناية الإلهية سيلا جارفا من المرح. لكن طاحونة الحياة كانت شرسة معها، فابتلعتها دون رحمة ولم تجد ضحيتنا من ثمن لتقدمه سوى روح المرح التي تملك، هي تسميها المسؤولية، وأنا أسميها الطاحونة، أو البالوعة، أو أي شيء يلتهمك ويجردك من حقيقتك.
أعرف حياة وأعرف كيف تغيرت أحوالها في مصلحة حكومية ترى في رئيسها إلها يعبد، وموظفين يحفرون لبعضهم الخنادق وينصبون لرؤسائهم ولعمالهم الفخاخ. ويلفون المشانق حول رقبة المتعثر الأول. ثم في زواج باهت يطالبها بالصلاح والحنان والطاعة والإخلاص والراتب. لقد ألقت بنفسها في الطاحونة وتركتها تدور وتدور، تدهس البهجة والمرح والأنوثة والرقة وتخرج للوجود كائنا جديدا لا ينتمي لجنس معين، يواصل العبوس طيلة السنة، ويحتمي وراء وجه جامد جدي، لا تعابير ولا مشاعر تظهر من خلاله. تتركك في حيرة تتساءل إن كانت راضية، سعيدة، حزينة أو مقهورة. عندما يتحول وجه الشخص للافتة طريق مهجورة محيت علامة تشويرها بفعل البرد والريح والمطر وأشعة الشمس اللاسعة، تقف في الخلاء لا دور لها سوى الوقوف، حينها يجدر بك أن تحجم عن أسئلتك التافهة، ما بك، ولماذا ومتى وأين أنت!؟. يجدر بك احترام الصنم الذي أمامك والدعاء له.
حياة صنم، أو آلة، أو دابة. أي شيء عدا كونها امرأة، لقد نسيت شكل الأنثى التي كانت، وصارت تتجاهل المرايا والفساتين وأقلام الحمرة. كل ما تحرص على حمله هو قلم أسود تصحح به التقارير، وتكتب به العناوين والأسماء والأرقام.
يكاد يكون روتين حياة الإنسان المعاصر طاحونة عملاقة نقفز وسطها ونترك الأمر لرحاها الدائرة، أصادف أشباه حياة كل يوم، في القطار والشوارع والمقاهي والمصالح والمستشفيات، أناسا يتربع شبح الذهول في نواصيهم، مستلبين وعابسين وباهتين يخافون فوات الأوان وانتهاء الأجل ولجان التفتيش. يخيفهم المرح، ويريبهم الوجه المبتسم. يؤمنون بالنمر المبتسم وأنيابه البيضاء والموت المتستر من خلفهم. يتمسكون بالجدية الدائمة ويطلبون من الناس ذلك، فلا مخرج لهم سوى نقاشات جادة عن الحروب والوزارات والأمراض والانتخابات والضرائب والصراعات والتصحر واقتراب الفناء وانتشار الفساد.
أكاد أختنق كلما رافقت حياة لموعد قهوة سريعة، جادة كسيف حاد، وعابسة حتى عندما تضحك تحمل وظيفتها وزوجها وأبناءها ومشاكل الجيران وحيل الزملاء وديونها فوق رقبتها أينما ذهبت.
أطيل النظر في عينها وألتزم الصمت.