المختصر والمفيد …. فيما جرى، ويجري في بلاد العقيد
على قول الراحلة أم كلثوم، “دليلي احتار” ولم أعد أفهم شيئا مما يجري في ليبيا. كان الأمر في السابق أهون على الفهم من الوضع الحالي. من قبل كان هناك معتوه اعتقد أنه وحيد زمانه وعصره فاستباح عقول الناس قبل أرواحهم وطلع بنظرية لم يستطيع هو بنفسه أن يشرحها، فوكل ذلك إلى مثقفي الخردة والرداءة، وما أكثرهم في العالم العربي. ثم جاءت الثورة، ولا مجال هنا للدخول في حيثياتها. المهم منها وفيها أنها أزاحت ثقلا لم يكن يظن أحد أنه سينزاح يوما عن صدر ليبيا وأهلها.
لكن ما يحدث حاليا من فوضى وعدم استقرار لا يمكن استيعابه وفهمه من انسان متابع للأحداث منذ اندلاع الثورة، فما بالكم بإنسان عادي يحكم على الأوضاع من خلال الأخبار وصور التلفزيون فقط.
عندما أكون أمام مثل هذه المواقف المستعصية على الفهم، أعود إلى منبع الحكمة عند من سبقونا إلى الدنيا بسنين عديدة وخبروها وعرفوا كيف يستنتجون الدروس من أحداثها. سألت أحد هؤلاء عن رأيه فيما يجري في ليبيا، وهل لديه تفسير لحالة الفوضى والتسيب غير المبررة التي تعم البلاد.
قال محدثي مفسرا: العديد من الأحداث والوقائع في عالمنا العربي وعلى امتداد تاريخنا السحيق لكي تفهمها جيدا يجب أن تحيلها إلى عالم الحيوانات وتستقي من تصرفاتها ما يساعدك على فهم طبيعة وتصرف الإنسان العربي، لأن التجربة أثبتت أنه في غالب الأحيان تتشابه دوافع ونوازع الحيوان مع مثيلتها عند الإنسان العربي. وقد كان عبدالله بن المقفع أول من اكتشف جدوى تفسير بعض تصرفات الإنسان ببعض الممارسات لدى الحيوان وذلك في كتابه القيم “كليلة ودمنة”. من هذا المنطلق فإن القصة التالية يمكن أن تسلط بعض الضوء على ما يجري في القطر الليبي :
“في إحدى المدن العربية، كان أحد السكان يمتلك قطيعا من الدجاج والديكة فوق سطح بيته. وكان من بينها ديك واحد شرس فرض زعامته على جميع الديكة والدجاج من القطيع، وكانوا يتبعونه مثل ظله، ينامون بعد نومه، ويستيقظون بمجرد يقظته. وكان له صياح حاد يطلقه حتى قبل آذان الفجر و لا يتوقف عن الصياح إلا عند منتصف النهار، محدثا جلبة وضوضاء على سطح البيت. وكان أحد الجيران الذين تطل غرفة نومه على سطح البيت، يعاني الأمرين من جراء صياح الديك وجلبته. مما جعله يفقد النوم لعدة أيام بسبب ذلك. وعندما فقد صبره وأعياه الأرق، عزم على مفاتحة صاحب الديك في الموضوع لعله يرق لحاله ويجد حلا لمأساته. واستجمع قواه وشجاعته، ودق باب جاره الذي رحب به واستمع إلى شكواه. طلب صاحب الديك من جاره أن يسامحه على كل المعاناة التي سببها له الديك المتسلط، ووعده بأنه سينهي عذابه في نفس اليوم، وذلك بذبح الديك وجعله وجبة عشاء دعاه إلى مشاركته إياها ليتأكد من نهاية عدوه الديك في طبق أكل لذيذ. وبالفعل حضر الجار مساء وأكل من الديك الراحل، واطمأن إلى أن جزءا من غريمه اللدود هو الآن في بطنه، ولم يعد هناك من أثر لمن كان يقظ مضجعه كل ليلة. بعد العشاء شكر الجار مضيفه بحرارة واستأذن في الذهاب إلى بيته وهو يمني النفس بنومة هادئة ومريحة. استسلم للنوم بسرعة وراح في سبات عميق. فجأة، وفي نفس التوقيت، انطلقت أصوات عديدة للديكة والدجاج كل يصيح ويغني على ليلاه، وكانت الجلبة والضوضاء أكثر من السابق لأن كل الديكة حتى صغارها كانت ترفع صوتها بالصياح. أمضى ما تبقى من ليلته دون نوم، آملا أن يكون ما حصل سحابة صيف ستنقضي في الليلة الثانية. لكن الليالي المتتالية عرفت ارتفاعا مهولا لحجم الصراخ والضوضاء وعدد الديكة والدجاج المشاركين فيها. استجمع قواه مرة أخرى وذهب عند صاحب البيت يرجو لديه الحل لمأساته، واستقبله الرجل بنفس الحفاوة، ولكنه عندما استمع إلى شكواه، وضع يده على كتفه وهو يقول له: اسمع ياجاري العزيز، في السابق كان الديك الذي ذبحناه وحده المتسلط على الجميع، ولا أحد يقدر على معارضته أو حتى الصياح في حضرته، وهكذا فإن الجميع كانوا شبه عبيد له من فرط الخوف والرعب فقط، وليس الحب أو الاحترام. وعندما ذبحناه وتعشينا به، وتأكد الجميع من رحيله إلى غير رجعة، أراد كل واحد من الديكة بل وحتى الدجاج أن يأخذ مكانه، ولأنهم لا يثقون في بعضهم البعض، ويؤثرون أنفسهم على المصلحة العامة، فإن كل واحد أطلق لنفسه العنان في الصياح ليثبت للآخرين بأنه الأجدر بالزعامة لأنه يصيح أكثر، وهذا سبب ارتفاع حدة الصياح والضوضاء. والحل الوحيد الآن هو ذبح كل القطيع، وهو أمر غير ممكن أبدا.”
تمعنت القصة جيدا وفهمت بالتالي ما جرى وما يجري في بلد العقيد. بالتأكيد لا يمكن أن نذبح القطيع كله، وكل ما يمكن أن نرجوه هو أن يظهر ديك متسلط قوي يفرض النظام والانتظام مهما كانت سطوته، لأن الذهنية العربية لا تستوعب ما معنى الثورة، إنها بالكاد تنتج التمرد. لأن الثورة تعني القطيعة التامة مع ما مضى شكلا وجوهرا، أما التمرد فإنه يعيد إنتاج نفس نموذج الحكامة الفاسدة والتسلط القهري لو تحت مسميات جديدة وبراقة. الديك الوحيد الذي ترتاح إليه الذهنية العربية بشكل كبير، هو الديك “المستبد العادل” ولنا في تاريخ هذه الأمة أمثلة كثيرة.