خالد فتحي
انتقاء المصطلحات عامل حاسم في كسب الحرب ضد كورونا، وفي إنجاح عملية التلقيح، ولذلك لا ينبغي أن تصبح مصطلحاتنا وتعبيراتنا التي نستعملها هي الحرب نفسها، وهي النقاش نفسه، وننسى النقاش الأساس الذي يجب أن ننكب عليه حول الفيروس وسبل التصدي له.
لقد طرأ تحور على النقاش الدائر بشأن قبول اللقاح، إذ أفقنا فجأة على مصطلحين وافدين من حقل السياسة إلى حقل الطب، أثارا جدلا ومناكفات على مواقع التواصل، فأصبحنا نسمع البعض يتحدث عن «أغلبية» ملقحة و«أقلية» غير ملقحة، عن تقسيم جديد للمجتمع بعدما قطعنا في التلقيح أشواطا وأشواطا.
وتطور الأمر إلى الحديث عن ديكتاتورية «الأغلبية» الملقحة، التي لها أن تجبر «الأقلية» على جواز التلقيح، وقابله استنكار ينتقد أن تخضع أو تتضرر «الأغلبية» بقرار «الأقلية»، والحال أن هذا الجدل الصاخب أو الزائد لم يكن ليحصل، لولا أن البعض ممن له عقيدة عداء للقاحات التقط كلمة «أقلية» واستغلها بسبق إصرار، لينمي شعورا بالاضطهاد والتمييز لدى من تخلفوا عن التلقيح، راميا إلى دفعهم نحو مزيد من العناد والتصميم على عدم أخذ اللقاح، وبالتالي التمكن من تحويل سلوك معين قابل للتغيير مع مرور الأيام إلى مبدأ راسخ لا يقبل التراجع، مما يخدم رؤيته الساعية لتصليب مواقف من رفضوا اللقاح، وتطويرها إلى أن تستحيل مواقف نهائية؛ أي خلق حدية في الاستقطاب.
مثل هذه المناورات التي تحمل الكلام عن أغلبية وأقلية بخصوص التلقيح أكثر مما يحتمل، وتحوره وتخرج به عن سياقه الطبي المحض ومن دائرة التعبير التلقائي العفوي إلى اعتباره دعوة للوصم والتفرقة، قد تتسبب في إعاقة نجاح حملات التلقيح.
صحيح أن عدد من تلقحوا بالمغرب يجاوز 25 مليونا، ويفوق بأكثر من 20 مليونا من لم يتلقحوا، والذين لا يتجاوز عددهم 5 ملايين. وأصح من ذلك أيضا أن هذه الفئة على صغر حجمها تتضاءل يوما بعد يوم، بسبب مغادرة العديد لصفوفها عن اقتناع، أو رغبة في حيازة جواز التلقيح لاستئناف حياتهم الطبيعية.
من الواضح أيضا أن هناك بمنطق السياسة أغلبية وأقلية، ولكن ذلك لا ينسحب على المنطق الطبي، فالطب يتسامى عن هذه التقسيمات، وبنود قسم أبقراط دليل على ذلك. فالخبراء يقاربون هذه المشكلات كقضايا صحية، ويحللونها كسلوكيات ينبغي توصيفها توصيفا ذكيا براغماتيا، بما يخدم الغاية النبيلة التي يمثلها تعميم اللقاح.
منظمة الصحة العالمية سكت سنة 2019، وقبل أشهر على الجائحة، مفهوما جديدا للتعبير عن الظاهرة، حيث تتحدث عن التردد بشأن اللقاح، والذي تعتبره أحد المخاطر العشرة الأولى التي تهدد الصحة بالعالم، فتعرفه بالتأخر في تلقي اللقاح، أو رفض اللقاح رغم توفره وسهولة الحصول عليه. ولذلك تدعونا إلى الحديث عن هذه العينة من الأشخاص، بوصفهم مترددين بشأن اللقاح لم يستطيعوا حسم قرارهم. والحقيقة أن هذا الوصف لا يجافي الحقيقة، فكم من متردد قبل باللقاح بمجرد مشاهدته لحوار تلفزي، أو بعد عدم معاينته آثارا جانبية جدية على قريب أو صديق له سبقه للقاح، أو تشجع وتلقح بمجرد فرض الجواز.
التردد أمر عادي جدا في اللقاحات، خصوصا في حالة كورونا التي تغذي سياقاتها مثل هذا التردد، فقد صممت لقاحات «كوفيد- 19» على عجل، كما رافقها سيل عارم من الأخبار الزائفة التي ترهب من اللقاح، وأحاطتها وساوس وتوجسات من الرهانات التجارية للشركات الكبرى، ناهيك عن الشك في أمد المناعة التي تعطيها، وظهور المتحورات التي تعيد كل مرة طرح قضية فعالية اللقاح. وكل هذه مخاوف يتعين على السلطات الصحية ملاحقتها وتفكيكها في لاشعور الناس.
سيكون من الأصوب أن نعتبر أن المغرب يوجد في وضعية التردد المناعي هاته التي تتبناها منظمة الصحة العالمية، إذ هناك تباطؤ في تلقي الجرعة الأولى، وشكوك لدى الناس حول ضرورة تلقي الثالثة، فيما اللقاح متوفر والمخزون منه وفير والصناعة الوطنية للقاحات على أهبة الانطلاق. ولذلك علينا أن ننصت، أن نحاور، أن نشرح ونعبئ ونلح ونكرر خطاب التلقيح، ولكن بإبداع في طرق التواصل والإقناع حتى نصل إلى المناعة الجماعية.
أول خطوة في هذا المضمار هي أن ندقق مصطلحاتنا، وأن نتكلم عن الملقحين أو المبادرين للتلقيح والمترددين بشأنه. هذا التصنيف بعيد جدا عن الوصم، بل يبقي الجميع في سلة واحدة. ويظل بهم جميعا على الطريق نفسها، طريق التلقيح، فالتردد هو المرحلة التي تسبق عادة المبادرة، وهو مسألة وقتية، ومرحلة أولى يحتاجها البعض قبل الانضمام إلى قافلة الملقحين.
في مجال اللقاح، الأغلبية والأقلية متحركتان، وبالتالي لا وجود حقيقي لهما، ولذلك لا ينبغي أبدا النظر إلى الأمر من هذه الزاوية. لأن المهاجمين للقاح يتحينون مثل هذه التعابير، لينفخوا فيها ويشتتوا الانتباه، ويغيروا النقاش الحقيقي نحو نقاشات هامشية تعطل السير نحو المناعة الجماعية، التي لا عذر لنا في عدم بلوغها، خصوصا مع خطر المتحورات والموجات. لذلك سنظل نلح على المترددين حتى يلتحقوا بالركب، وسنحافظ في الآن نفسه على المبادرين إلى التلقيح، حتى لا يغادروا الركب. فنحن جميعا في مركب واحد. ومن يدري فقد تظهر غدا أدوية فعالة تجعلنا نعيد النظر في مقاربتنا من جديد.
نافذة:
علينا أن ننصت أن نحاور أن نشرح ونعبئ ونلح ونكرر خطاب التلقيح ولكن بإبداع في طرق التواصل والإقناع حتى نصل إلى المناعة الجماعية