الكولونيل بوزيان.. آخر شاهد على مرحلة الحسن الثاني
رحيله أقبر أسرار مهام عسكرية ودبلوماسية لأزيد من نصف قرن
«بوفاته يوم الخميس 7 يوليوز، يكون المغرب قد فقد أحد أكبر المسؤولين العسكريين والدبلوماسيين. كان صديقا للجنرال بن عمر، وكان قريبا أيضا من كل «عمالة»، زمن الملكين محمد الخامس ثم الحسن الثاني.
اضطلع بمهام كثيرة، أهمها الإشراف على الاتفاقيات العسكرية بين المغرب وواشنطن، خلال فترة حكم الرئيس كينيدي، ثم عمل بالقرب من الملك الراحل الحسن الثاني لعقود، تقلب خلالها بين مهام رسمية وأخرى لم تكن كذلك».
يونس جنوحي
من أيام طنجة «الذهبية» إلى القصر الملكي
رغم أن الكولونيل عبد السلام بوزيان فتح عينيه في أسرة محافظة، أسسها أطر مخزنيون وإداريون مثلوا «السلطة» في المدينة ونواحيها، وكانوا أوائل من تعاملوا دبلوماسيا مع التمثيليات الأجنبية في المغرب ومنطقة جبل طارق، إلا أن والد الكولونيل عبد السلام بوزيان، اختار لابنه في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي أن يدرس في التعليم العتيق، وبالضبط في أحد أشهر الكتاتيب القرآنية في المدينة العتيقة بطنجة.
وكانت الأسر التي تُوجه أبناءها وقتها إلى هناك، تكن العداء للأجانب وترفض كل ما هو أجنبي. إلا أن والد بوزيان، بحكم التاريخ العريق لأسرته، أراد أن ينهل ابنه من التعليم العتيق لكي يحافظ على هويته المغربية، وهو ما أكده عبد السلام بوزيان في أوراقه الشخصية، عندما تحدث عن هذه المرحلة من حياته.
حيث درس عند الفقيه الطنجاوي «الفقيه داميجو»، الذي كان معروفا بروح النكتة مع الناس، والصرامة الشديدة مع التلاميذ، إلى درجة أن عددا منهم كانوا يغادرون الحصص التعليمية، خوفا من عقابه الذي يباركه الآباء.
لكن الكولونيل بوزيان كان على العكس تماما، إذ إن والدته كان ترفض قطعا أن يضرب الفقيه داميجو ابنها، لذلك ألحت على والده أن يُوجه عبد السلام إلى الدراسة العصرية، وهناك سوف يتعرف على أبناء الأعيان الآخرين وتلاميذ من جنسيات مختلفة، كانوا يمثلون زبدة مجتمع طنجة الدولية.
عندما أنهى عبد السلام دراسته الأولية، اتضح للأسرة أن لديه نبوغا كبيرا في العلوم، وخصوصا في مجال الرياضيات، وهو ما أهله لكي يدرس الطيران بعد البكالوريا في فرنسا، وفعلا عاد إلى المغرب حاملا الدبلوم ليكون في طليعة المغاربة الأوائل على الإطلاق، وهو ما جعله يحتل صدارة لائحة الخريجين التسعة الذين احتفى بهم الملك الراحل محمد الخامس، مباشرة بعد عودته من المنفى، وأوكل إليهم مهمة تسلم مفاتيح القواعد الفرنسية، التي كانت تضم أسطول طائرات تسلمها المغرب من فرنسا بموجب اتفاق.
وهكذا بدأ الكولونيل عبد السلام بوزيان مساره العسكري في سلك الطيران العسكري، ثم تحول مع بداية عهد الملك الحسن الثاني إلى السلك الدبلوماسي، لكي يصبح ملحقا عسكريا في السفارة المغربية بواشنطن.
وهذا المنصب الحساس كانت له أهمية كبرى، خلال عهد الرئيس كينيدي على وجه الخصوص، إذ إن كل الاتفاقيات الأمنية والعسكرية بين المغرب والولايات المتحدة، بعد جلوس الملك الحسن الثاني على العرش، تمت في فترة وجود الكولونيل عبد السلام بوزيان في منصبه في سفارة المغرب بواشنطن. وهذا يعني أنه كان علبة من الأسرار، حمل معه أغلبها إلى مثواه الأخير، عندما أعلن خبر وفاته، يوم الخميس قبل الماضي (7 يوليوز).
أغلب المغاربة لا يعرفون من يكون الكولونيل عبد السلام بوزيان، والسبب أنه كان رجل أسرار ومهام تدخل في إطار أمن الدولة. كان ممن حملوا الحقائب السوداء، وحلقوا بعيدا في الطائرات النفاثة لكي يحلوا الأزمات، عندما كان أغلب السياسيين يلتقطون الصور. ولهذه الأسباب، بقيت حياة عبد السلام بوزيان في الظل، حتى بعد حصوله على التقاعد. ولم تغره الصحافة لكي يُسلط عليه الضوء في آخر حياته، واعتذر بلباقة لـ«الأخبار» أكثر من مرة، عن خوض لعبة الذاكرة. لكنه بالمقابل، كان قد وضع مسودة من أرشيفه الخاص تضم بعض الصور ونصوصا يحكي فيها معلقا على تلك الصور، يشرح تارة حيثيات التقاطها، وتارة أخرى يعلق على الأحداث ويشرح طبيعة المهام الدبلوماسية التي كلف بها. لكنه سكت أكثر مما تكلم، وسحب تلك الوثائق ولم تعد متاحة للعموم في موقعه الشخصي، إلى أن عاد اسمه إلى الواجهة بعد انتشار خبر وفاته في غمرة الاستعدادات لعيد الأضحى.
أزيد من نصف قرن فوق أجنحة الطائرات النفاثة
قبل أن نخوض في تفاصيل حياته الدبلوماسية والمهام التي كلفه بها الملك الراحل الحسن الثاني في واشنطن، لا بد أولا أن نعرج على حياة «المغامرات» التي قضاها الكولونيل عبد السلام بوزيان في سلاح الجو. تعلم الطيران مع الفرنسيين وتفوق عليهم، ثم تدرب مع الأمريكيين، وأشرف على تخرج الدفعة الأولى من الطيارين المغاربة المؤهلين لقيادة الطائرات العسكرية الأكثر تعقيدا في تاريخ الطيران العسكري.
الكولونيل ماجور عبد السلام بوزيان، الذي عُينَ سابقا ملحقا عسكريا في سفارة المغرب بواشنطن، ثم قائدا في صفوف القوات الجوية الملكية، تكلف بمهام في الطيران المغربي بقيت محاطة بكثير من السرية.
يتعلق الأمر بمهام سنة 1956 في منطقة الصحراء في عز الصراع المغربي الإسباني حول الأقاليم الجنوبية، وهي الأحداث التي تداخل فيها جيش التحرير المغربي مع موقف الملك الراحل محمد الخامس، وانتهت بهدنة مع الإسبان إلى أن حلت المسيرة الخضراء سنة 1975.
وخلال الإعداد للمسيرة الخضراء دائما، كان الكولونيل عبد السلام بوزيان أحد الأركان والكفاءات التي اعتمد عليها الملك الراحل الحسن الثاني لإنجاح المسيرة الخضراء، إذ هندس الكولونيل لعملية إيصال الإمدادات جوا لتوفير ما يلزم من أغطية ومؤونة للمشاركين في المسيرة، وهي المهمة التي لم تكن سهلة نهائيا.
كان وقتها بوزيان قد عاد من مهمة الولايات المتحدة الأمريكية، واشتغل إلى جانب الملك الحسن الثاني مرافقا له، حيث كان يشرف على إدارة سلاح الجو المغربي، بالإضافة إلى مهام دبلوماسية بفضل العلاقات التي راكمها، أثناء وجوده في الولايات المتحدة خلال ستينيات القرن الماضي.
رحيل الكولونيل عبد السلام بوزيان يمكن اعتباره رحيلا لآخر الذين عاصروا الملك الحسن الثاني عن قرب، واشتغلوا معه على الملفات الحساسة التي بصمت الخريطة السياسية للقرن الماضي. إذ إنه كان من الجيل الذي اشتغل مع الجنرال عبد السلام بن عمر خلال حرب الرمال سنة 1963، ومن الذين عانوا من صراعات الظل بين الكولونيل المذبوح والجنرال أوفقير، حول سيادة المربع المحيط بالملك الحسن الثاني.
لكن ما ميز بوزيان أنه نأى بنفسه بعيدا عن تلك الحروب، واختار أن ينشغل بمسؤولياته التي ضمنت له مكانا بقرب الملك، بعيدا عن «دسائس القصور». إذ إنه كان صديقا لإدريس بن عمر، الذي عُرف عنه أنه أحد مؤسسي الجيش المغربي. بالإضافة إلى أنه كان قريبا جدا من الكولونيل المذبوح، والتقاه في الولايات المتحدة الأمريكية مرات كثيرة عندما كان يمثل الملك الحسن الثاني في مهام دبلوماسية، وساعده كثيرا عندما كان يبحث عن طبيب لكي يتابع حالته الصحية هناك، قبل أن يُصدم الجميع عندما علموا بأنه كان وراء التخطيط لانقلاب الصخيرات سنة 1971.
رحيل بوزيان إذن، سقوط لورقة أخرى من الذاكرة السياسية والعسكرية للمغرب، ونهاية تجربة حياة حافلة بالأحداث الشائقة.
أسرة بوزيان.. العائلة التي «صنعت» أول جواز سفر مغربي!
المعروف أن عائلة بوزيان من العائلات الطنجاوية العريقة، وسبق لأفراد من العائلة أن كانوا في خدمة المخزن منذ زمن المولى الحسن الأول، حيث وصلوا إلى مناصب مهمة ورفيعة، وكانت الأسرة آنفة الذكر في طليعة الأسر المغربية التي انفتحت على أوروبا.
في سنة 1902، عاش المغرب على وقع حدث بالغ الأهمية. إذ بعد وفاة المولى الحسن الأول، أصبح موضوع صناعة نخبة من الدبلوماسيين المغاربة القادرين على فتح علاقات مع الدول العظمى المستقرة في طنجة الدولية أمرا مُلحا.
وكان عبد السلام بوزيان الجد، ممثلا للمغرب في منطقة جبل طارق، حيث كان يشغل منصبا دبلوماسيا هناك ولديه اتصالات واسعة مع السلطات الأوروبية.
ما وقع أن الوفد المغربي الذي خرج من فاس، وتزعمه القايد عبد الرحمن بن عبد الصادق وكاتبه الحسن بن محمد الغسال، صادف أفراده مشكلا عندما غادروا مدينة طنجة مُحملين بوثيقة من القصر الملكي، بمثابة أوراق اعتماد للإدلاء بها في القصر البريطاني، للقاء الملك إدوارد السابع.
لكن ما وقع أن السلطات في جبل طارق اعترضت طريق الوفد المغربي، بدعوى أن أفراده يحملون وثائق رسمية باللغة العربية، بينما كان موظفو الخارجية البريطانية في جبل طارق لا يفهمون اللغة العربية، ولم يكن هناك ترجمان يثق فيه الأوروبيون لكي يترجم لهم مضمون الوثائق التي تدعم موقف الوفد المغربي.
وهنا لجأ البريطانيون إلى خدمات القنصل المغربي العام، وبعض المصادر تؤكد أنه أول مغربي شغل هذا المنصب، ويتعلق الأمر بالقنصل عبد السلام بوزيان، وهو واحد من المغاربة التقليديين الذين أقاموا في منطقة جبل طارق، حيث عاش مرتديا الجلباب المغربي ومحافظا على الهوية المغربية، ومشرفا على شؤون المغاربة المقيمين في جبل طارق.
حل عبد السلام بوزيان في مقر الإدارة البريطانية التي استقبلت سفير السلطان، وكان وقتها مولاي عبد العزيز في قصر فاس، وعمل على حل المشكل، حتى لا يعود السفير المغربي أدراجه من حيث أتى.
وبادر إلى صناعة أول جواز سفر مغربي في التاريخ، حيث أصدر وثيقة باللغة الإنجليزية واللغة العربية، تمثل هوية السفير المغربي وتحمل ختما رسميا، وتشير إلى المهمة التي يحل من أجلها في بريطانيا.
وتمت صناعة جوازات لبقية أعضاء الوفد. وهكذا كان عبد السلام بوزيان الجد، أول مسؤول مغربي يصنع ويُصدر أول جواز سفر في تاريخ المملكة المغربية، وبفضله نجحت المهمة الدبلوماسية التي خرج من أجلها السفير القايد عبد الرحمن بن عبد الصادق.
ومن بعده، توالت البعثات الدبلوماسية المغربية الأخرى، وأصبح من أولى الخطوات الرسمية التي تتخذ في هذا الباب، حمل السفراء والوفد المرافق لهم لوثيقة تشرح مهمتهم بالتفصيل بمثابة جواز سفر، تُغني عن ملازمة مُترجم أجنبي للوفد يتولى التفاوض مكانه لإنجاح المهام الدبلوماسية.
وواقعة الجواز، رواها الدبلوماسي عبد السلام بوزيان، الحفيد، بنفسه في أوراقه الشخصية التي كانت تمثل مشروعا حيا لمذكراته الموثقة لحياته في السلك العسكري والدبلوماسي، وأيضا صديقا للملك الراحل الحسن الثاني.
أسرار من مكتب الحسن الثاني والعلاقة مع «واشنطن» أيام حرب 1967
نجح الكولونيل عبد السلام بوزيان في الوصول إلى المربع الذهبي المحيط بالملك الحسن الثاني، خلال بداية الستينيات، ثم عين لاحقا في السفارة المغربية في واشنطن، وعاش مرحلة سنة 1967 من هناك، حيث كان في استقبال عدد من الجنرالات المغاربة الذين حلوا في مهام عسكرية بواشنطن، وتوسط للكولونيل المذبوح هناك ليحصل على رعاية طبية خاصة من الأمريكيين، دائما خلال نهاية الستينيات.
السفارة المغربية في واشنطن خلال بداية الستينيات، كانت الأكثر إثارة للرهبة في نفوس الدبلوماسيين المغاربة، الذين كان أغلبهم لا يتحدثون الإنجليزية، لذلك كان الملك الحسن الثاني يحتاط كثيرا، أثناء اختيار الأسماء التي تتكلف بمهام دبلوماسية هناك، حتى لو كان الأمر يتعلق فقط بدعوة مجاملة، نظرا لما كانت تمثله الولايات المتحدة الأمريكية من أهمية في أولويات الملك الراحل.
الثقة الملكية التي حصل عليها عبد السلام بوزيان كانت حصيلة تراكم عمل عليه منذ أيام الملك الراحل محمد الخامس، عندما أمسك بمفاتيح الطيران المغربي بعد الاستقلال، لكي يكون أول إطار مغربي ينوب عن الخبراء الفرنسيين في إدارة شؤون الطيران المغربي بعد الاستقلال.
تحدث كثيرون ممن عرفوا عبد السلام بوزيان عن صداقة متينة جمعته بالملك الحسن الثاني، بعيدا عن تعقيدات العمل المكتبي والاستقبالات الرسمية.
وفعلا كان الكولونيل من القلة الذين اختارهم الملك الحسن الثاني، لكي يقضي معهم ساعات الصفاء والاستجمام، ويتداول معهم في شؤون الدولة.
بل إن بعض المهام التي حكاها عبد السلام بوزيان بنفسه في مشروع مذكراته التي لم تر النور حتى الآن، كان يتداول معه الملك الحسن الثاني بخصوصها، في ساعات استراحته الخاصة، وليس في المكتب أو خلال الاستقبالات الرسمية.
ومن بين أهم وأصعب الفترات التي قضاها بوزيان في أمريكا، فترة حرب 1967 بين العرب وإسرائيل، حيث كان المغرب مشاركا مع القوات العربية في الحرب، بينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية ضد ذلك التكتل. وكان الملحق العسكري في السفارة المغربية بواشنطن، هو الكولونيل عبد السلام بوزيان.
لكن بدل أن يأتي الكولونيل إلى الرباط، أرسل الملك الحسن الثاني الجنرال إدريس بن عمر، الصديق الحميم للكولونيل عبد السلام بوزيان، إلى واشنطن.
وكانت مهمة بوزيان العمل على إنجاح زيارة هذا الجنرال، وترتيب لقاءات بينه وبين مسؤولين أمريكيين، حتى لا تحدث أزمة بين المغرب والولايات المتحدة، خصوصا وأن اتفاقيات كثيرة كانت تجمع بين البلدين.
وكما سبقت الإشارة إليه، فقد تزامنت زيارة الجنرال إدريس بن عمر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في يونيو 1967، مع تداعيات ما عرف بحرب الأيام الستة بين الجيوش العربية والجيش الإسرائيلي. ولم تكن نقطة مشاركة الجيش المغربي بأمر من الملك الحسن الثاني، لتغيب عن تلك المحادثات التي تداول فيها الجنرال مع مسؤولي واشنطن العسكريين، ملفات أمنية حساسة بما فيها ملف الشرق الأوسط.
وقد سبق في «الأخبار» أن أشرنا إلى أن اسم الكولونيل عبد السلام بوزيان قد ورد في تسريبات وثائق «ويكيليكس» الشهير سنة 2014. ونشرنا وقتها تفاصيل مهمة تتعلق بالمهام التي قضاها بوزيان في واشنطن، ومدى حساسية «حقل الألغام» الذي كان يمشي فوقه.
إذ سبقت الإشارة إلى أنه في سنة 1969، وضعت الولايات المتحدة الأمريكية رجلها العسكري الخبير ويليام لانغ، لكي يترأس الهيئة التي كلفت بالتنسيق مع الجانب المغربي في الأمور الأمنية. وبما أن الكولونيل عبد السلام بوزيان كان هو الملحق العسكري في السفارة، فإنه كلف بالجلوس مع الأمريكيين إلى الطاولة، ونقل تقارير تلك الاقتراحات الأمريكية والتعليمات أحيانا إلى الرباط.
كانت هذه العلاقة قد أثمرت فوز المغرب بعدد من الاتفاقيات والمساعدات من الجانب الأمريكي، سيما أن الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الستينيات من القرن الماضي، كانت قد فتحت قواعدها العسكرية لاستضافة أفواج من الطيارين المغاربة الجدد، الذين مثلوا الجيل الثاني من الطيران المغربي، لكي يتدربوا على أحدث الطائرات والرادارات الأمريكية. والأكثر من هذا أن الولايات المتحدة منحت طائرات مقاتلة من آخر طراز في تلك الفترة، هدية إلى الطيارين المغاربة الذين عادوا بها إلى المغرب لتعزيز الأسطول الجوي للجيش المغربي.
كان الكولونيل عبد السلام بوزيان يلج بناية البنتاغون لحضور الاجتماعات الرسمية المنعقدة مع الجانب الأمريكي، ومضمون تلك الاجتماعات كان يُرفع مباشرة إلى الملك الحسن الثاني، كما أشارت إلى ذلك وثائق أرشيف الخارجية الأمريكية التي رفعت عنها السرية سنة 2014، والتي تناولت العلاقة بين الملحق العسكري المغربي في السفارة المغربية بواشنطن لنهاية الستينيات والنصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، والتي كان من بينها برنامج لتدريب تقنيين مغاربة على الرادارات. وكتبت الصحافة السوفياتية وقتها أن الأمريكيين عهدوا إلى المغاربة بمراقبة الأجواء في المحيط الأطلسي لصالحهم، للتأهب ضد أي تحرك جوي سوفياتي قد يهدد سلامة الأمريكيين.
قصة اجتماع مع الحسن الثاني في الثانية صباحا!
برحيل العسكري والدبلوماسي عبد السلام بوزيان، يكون المغرب قد فقد «ورقة» مهمة من الذاكرة الوطنية التي توثق لمرحلة الاستقلال، وأحد أبرز الشهود على كواليس تأسيس الطيران المغربي والسلك الدبلوماسي أيضا.
ففي سنة 1955 أصبح عبد السلام بوزيان رسميا من بين أبرز أسماء الجيل الأول للطيارين المغاربة الأوائل، الذين أمسكوا بزمام إدارة الطيران المغربي.
في 14 ماي 1956، في سياق تأسيس الجيش الملكي، استقبل الملك الراحل محمد الخامس الفوج الأول، ووعد الطيارين التسعة الذين درسوا الطيران وتدربوا عليه في فرنسا، بمسار واعد في الجيش المغربي، بعد أن سلمهم مفاتيح تأسيس القاعدة المغربية الأولى، والتي كانت تقع في الرباط سلا. الكولونيل عبد السلام بوزيان أمسك مفاتيح قاعدة الرباط، فيما رفيقه في التخرج محمد القباج، الذي أصبح لاحقا ربان طائرة الملك الحسن الثاني خلال السبعينيات والثمانينيات، أمسك بمفاتيح قاعدة مكناس.
وكانت تلك ثقة كبيرة من الملك محمد الخامس الذي رحب بعبد السلام بوزيان، إذ إن الملك الراحل كان يعرف جيدا أصوله الطنجاوية والعائلة العريقة التي ينتمي إليها.
وفي عهد الملك الراحل الحسن الثاني، بدأ بوزيان مسارا خاصا مع جلوس الملك على العرش سنة 1961. وازدادت التكليفات العسكرية المنوطة به في مجال الطيران، خصوصا وأن المغرب سوف يوقع وقتها اتفاقا مع الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الطيران العسكري، وسوف يتخلى عن الدعم السوفياتي للمغرب منذ 1956.
كان الأسطول المغربي منتصف الخمسينيات يتكون من طائرات فرنسية عتيقة، تعود إلى أيام الحرب العالمية الأولى، لكن القائمين على الطيران المغربي استعملوها في تأسيس الإدارات المغربية وربط الاتصال بين الأقاليم ونقل الإرساليات والوثائق وقضاء المهام العاجلة، قبل أن تأتي الطائرات السوفياتية المتطورة لتشكل النواة الأولى للطيران العسكري المغربي. لكن مع بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني، حدث تقارب كبير وبينه وبين أمريكا في مجال التعاون العسكري. وهكذا وقع البلدان اتفاقا عسكريا، يقضي بتكوين الطيارين المغاربة في أمريكا وتزويد المغرب بأحدث الطائرات المقاتلة. وبموجب هذه الاتفاقيات سيحصل عبد السلام بوزيان على شارة الليوتنان كولونيل في واشنطن، سنة 1967، في شهر يونيو بالضبط، بعد أن حمل الجنرال إدريس بن عمر بنفسه تلك الرتبة، سابقا، لكي يقلد بوزيان بها رسميا. كان السياق زيارة إلى واشنطن ترأسها الجنرال إدريس بن عمر، بأمر مباشر من الملك الراحل الحسن الثاني. وكان وقتها عبد السلام بوزيان يشغل رسميا منصب ملحق عسكري في السفارة المغربية في واشنطن.
تأبط ملفا سريا للغاية من الرباط، عندما أرسله الملك الحسن الثاني إلى السفارة في واشنطن. ولم تكن تلك المرة الأولى التي يتعرف فيها الملك على الكولونيل بوزيان عن قرب، بل سبقتها مرات أخرى تعود بالضبط إلى الفترة التي كان فيها الحسن الثاني وليا للعهد.
ففي سنة 1962 طلب بوزيان أن يقابل الملك الراحل الحسن الثاني، وهو ما تم في الثانية صباحا، ذات ليلة رمضانية. اللقاء تزامن مع توقيت وجبة السحور، وكان الملك الحسن الثاني مهتما بطلب الطيار بوزيان لقاءه، وكان وقتها الكولونيل القباج قد طلب إعفاءه من رئاسة قاعدة مكناس، وقدم طلبا وصف فيه أسباب طلبه الإعفاء بالشخصية. وخلفه الكولونيل بوزيان، الذي راكم بدوره تجربة في قاعدة سلا الجوية، وفي ذلك السياق طلب لقاء الملك الحسن الثاني، لكي يخبره ببعض التفاصيل المرتبطة بتعيينات تلك القواعد العسكرية. وقتها كان الطيار عبد السلام بوزيان يتعرف على محيط الملك الحسن الثاني جيدا، سيما وأن أسماء عسكرية، عصف انقلاب الصخيرات بأغلبها، كانت تسيطر على المشهد العام وتطوق جيدا محيط الملك الحسن الثاني. لكن بما أننا نتحدث عن 1962، فإن توقع مصير مشابه لكل هؤلاء كان شبه مستحيل.
المهمة في الولايات المتحدة الأمريكية، في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، كانت تمثل قمة ما وصل إليه الكولونيل عبد السلام بوزيان من حظوة مهنية وتقدير من طرف الملك الراحل الحسن الثاني.
آخر أصدقاء الملك؟
قبله رحل الدبلوماسي أحمد السنوسي، في أكتوبر 2021، وهو أحد مؤسسي وزارة الخارجية المغربية ورفيق الملك الراحل الحسن الثاني منذ شبابه، وكان أبرز العارفين بخبايا دار المخزن. لكن بحكم المنصب الذي شغله، ممثلا دائما للمغرب في الأمم المتحدة، إلى أن حالت وضعيته الصحية دون الاستمرار في مهامه الدبلوماسية، كان رحيله «مُدويا».
لكن رجلا آخر، لا يقل أهمية عنه، نشأ في ظل الملك الحسن الثاني وربطته به صداقة متينة جدا، رحل هذه الأيام في صمت وبالكاد انتبه إليه المهتمون بأخبار من هذا النوع. والسبب أن الكولونيل عبد السلام بوزيان كان رجل الأسرار والمهام السرية. عاش في الظل وتوارى إلى الخلف محترما «قداسة» وجسامة المهام، التي تكلف بها أيام كانت السياسة الدولية بالأبيض والأسود، ويعلوها دخان كثيف لأزمات غيرت خريطة العالم.
الكولونيل عبد السلام بوزيان كان لينتهي مسؤولا متقاعدا وكفى، لكن قربه من الملك الحسن الثاني، واشتغاله في واشنطن خلال السنوات الأولى لحكم الملك الراحل ملحقا عسكريا في السفارة المغربية في واشنطن، جعلاه يلج باحة أسرار الدولة التي لم يكن الملك الحسن الثاني يدع أحدا يدخلها، إلا بعد أن يجتاز «امتحان الكفاءة» وعن جدارة واستحقاق.
الكولونيل عبد السلام بوزيان، أحد القلائل الذين تعرفوا على الملك الحسن الثاني عن قرب بعيدا عن البروتوكول، وأفضى إليهم في لحظات صفاء بعيدا عن مهامه الملكية الجسيمة، بأسراره ومخاوفه وتأملاته أيضا. وفضل أن يحمل معه الآن كل هذه الأسرار إلى قبره، فقد كان يعرف جيدا أن أسرار الدولة تموت مع صاحبها، ويجب ألا تغريه الأضواء لكي يفضي بها إلى الصحافة. وقد كانت هذه «عقيدة» الكولونيل عبد السلام بوزيان الذي رتب أرشيفه ورفع عنه الستار سنة 2016، مادة أولية، وثق فيها لأبرز محطات حياته والمهام الرسمية التي تكلف بها. وظهر في صور وحيدا مع الملك الحسن الثاني، وهو ما يؤكد الحظوة التي كانت لديه، لكنه لم يفصح في أوراقه نهائيا عما كان يدور بينه وبين الملك.