الكاتب العربي ووهم العالمية
عز الدين عناية
يحرص لفيف من الكتاب على نقل أعمالهم الإبداعية إلى اللغات الأجنبية، طمعا في كسب وجاهة في الداخل وألمعية بالخارج، أو كما لخص لي أحدهم الأمر «لنيل الشهرة وبلوغ العالمية، وقد بلغها من هو دونه باعا وأبخس إنتاجا». وكأن اللغة التي صاغ بها الكاتب نصه عرجاء لا تفي بالغرض، ما لم تتلحف بألسن الأعاجم حتى يشق صاحبها غمار العالمية. الواقع أن في استبطان العربية، أو غيرها من اللغات محدودية، مع بعض الكتاب، تكمن علاقة مضطربة وغير سوية للكاتب مع ثقافته، ولسانه، تقوم على أساس تهميش ذاتي، ينبني على إعادة تدوير ثقافية بائسة لمفهوم المركز والهامش، يضع فيها الكاتب لسانه وإبداعه في خانة الألسن والإنتاجات الوضيعة.
والحال أن الإبداع بأي لغة كانت، ينبغي أن يُثمن ويقدر على ما هو عليه، بوصفه استجابة طبيعية لنداء باطني، واختيار أي لغة للكتابة، ليس مدعاة للفخر ولا هو سبب للنقيصة، لأن الإيمان باللسان الحامل للإبداع هو أول شروط التعامل السوي، حيث يتصور الكاتب الواقع تحت إغراء العالمية، أن النص المدون بلغات غربية تحديدا، أو في مستوى آخر المترجَم إلى تلك اللغات، من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه أمام صاحبه لارتقاء المنابر العالية، وهي تهويمات خاطئة تتطلب التفكيك والدحض.
وبموجب انشغالي بمجال الترجمة أتابع صدى ما ينقل من الأعمال العربية إلى اللغة الإيطالية، وبالعكس أيضا، بهدف فهم أوضاع المثاقفة بين اللغتين. إذ يلفت الانتباه، في كثير من الأحيان، واقع «السمسرة» السائد، وأقصد بالسمسرة ليس بعدها المادي، ولكن بعدها العلائقي المفتقر إلى التقييم الإبداعي الحقيقي. فغالبا ما تحظى نصوص بالقبول، في أوساط عَرابي الترجمة ووكلائها، لأن هذا الروائي، أو ذاك الشاعر، يملك شبكة علائقية ذات طابع زبائني، تيسر له ترجمة إبداعه ومن ثم تزكية نصه لدى دور النشر الأجنبية. وما الحديث عن مهنية دور النشر الغربية وجديتها، سوى أمر نسبي.
ففي الأوساط الثقافية الغربية، وأتحدث هنا عما له صلة بالثقافة العربية، في مجالات الأدب والفكر والفن، توجد في كل بلد غربي تقريبا طائفة من المستشارين تمثل مرجعية لدى دور النشر، والمؤسسات الثقافية، والأوساط الإعلامية. وهي من تتولى انتقاء الأعمال وتزكية الأفراد الذين يجوز وضعهم في دائرة الضوء، إعلاميا وإبداعيا، وترشيحهم إن لزم الأمر إلى نيل الجوائز وحيازة التكريمات. وغالبا ما تكون الاعتبارات المحيطة بهذا الاحتفاء، ذات الطابع السياسي والإيديولوجي، حاضرة بقوة في هذا التقييم ومقدمة على القيمة الجمالية للإبداع. يشهد على ذلك أن ما ترجم من أعمال إبداعية عربية إلى اللغات الغربية، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ليس هو أفضل ما جادت به قرائح الكتاب والمبدعين العرب، ولا أرقاها تمثيلا لإبداعات الثقافة العربية، وإنما هي أوفرها حظا وأمتنها علاقة مع الخارج وأكثرها استجابة للمعايير المطلوبة.
ولذلك لا تعني الترجمة الحضور الإبداعي في الساحة الثقافية الغربية دائما، بل قد تعني الغياب أحيانا، ومضاعفة فائض الوهم لدى أصحابها لا غير. يفضح ذلك إدراج الترجمات العربية في أقسام منزوية في المكتبات الغربية، تتجاور فيها مختلف أصناف الكتب الإيزوتيكية (الغرائبية)،. ذلك بشأن النص الإبداعي العربي، وأما ما تعلق بأصحابها فنادرا ما تتاح لهم فرص عرض أعمالهم بالشكل الذي يعرض به نظراؤهم الغربيون إنتاجهم الفكري والأدبي. إذ لا يعامل الكاتب العربي، الوافد على الغرب ضيفا، ككاتب صاحب نص إبداعي وإنما كناشط سياسي مستنفر، تنهال عليه الأسئلة ذات الطابع الإيديولوجي والبعيدة عن مجاله، بشأن الأصولية، والموقف من المرأة، والعلاقة بالسلطة، حين يحاوَر.
ويتصور جملة من الكتاب العرب أن الترجمةَ إلى اللغات الغربية هي بوابة الولوج إلى العالمية، والحال أن نقل الأعمال الإبداعية دون تثبت من قدرات ناقليها، يتحول أحيانا إلى مقبرة للعديد من الأعمال الإبداعية، المميزة في لغاتها الأصلية، وهو ما لم ينج منه حتى كبار الكتاب: في إيطاليا نص «موسم الهجرة إلى الشمال» للكاتب الطيب صالح، ونص «الكرنك» للكاتب نجيب محفوظ، ونص «ذاكرة الجسد» للروائية أحلام مستغانمي، جميعها أنجزت ترجماتها من قبل طلاب إيطاليين، ليست لهم دربة سابقة بالكتابة، ولغتهم الإيطالية غضة، إن لم نقل هزيلة ولا ترتقي إلى مستوى تلك النصوص في لغتها الأصلية. ولذلك جاءت الترجمات هزيلة ولم تتجاوز مبيعاتها الطبعة الأولى، ناهيك عن أن دور النشر الصغيرة ومحدودة التوزيع هي التي عادة ما تتبنى نشر الأعمال العربية.
إذ لا يفوت الملم بأوضاع المجتمعات الغربية أن تصنيع النجومية، في مجالات الآداب والفنون، هو مجال خاضع للتوجيه والتوظيف والتوقيت. تحشد له جملة من العناصر والأدوات، بغرض إبلاغ رسالة معينة على نطاق إقليمي أو عالمي، أو تمرير خط إيديولوجي أو سياسي، أو ترسيخ نهج ذوقي أو قيمي، واضح الأهداف وجلي المعالم. ولا ينال المرشح لذلك الدور تلك الدرجة، بمجرد إنتاج عمل طائش، مهما علا شأنه، وإنما بناء على مسار وسيرة يميزان صاحبه، يعليانه إلى مصاف العالمية.
توجد في كل بلد غربي تقريبا طائفة من المستشارين تمثل مرجعية لدى دور النشر، والمؤسسات الثقافية، والأوساط الإعلامية. وهي من تتولى انتقاء الأعمال وتزكية الأفراد الذين يجوز وضعهم في دائرة الضوء، إعلاميا وإبداعيا