بقلم: خالص جلبي
توجد في القرآن أربع آيات في التدبر بأربعة حقول «أم على قلوب أقفالها»، فالتدبر هو مفاتيح تلك الأقفال، «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا». والتدبر هنا لاكتشاف الوحدة الموضوعية للقرآن فلا تناقض. وثالثا «أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين»، هنا التدبر للنظر عبر التاريخ أنه مدعاة لهضم المغزى الأخلاقي لماذا جاءت النبوات؟ أما الموضع الرابع فهو من سورة «صاد»، أن التدبر لاكتشاف بركة القرآن بمعنى التراكم المعرفي «كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته».
هذا عن التدبر بمعنى التأمل العميق للفهم، أما مواضع التفكر والتعقل فقد جاءت يعقلون 22 مرة ويتفكرون 18 موضعا، فتكون السلاسل الثلاث من (التدبر + التعقل + التفكر= 4 + 22 + 18 = 44 موضعا)، فإذا أضفنا الفقه والتفقه «يتفقهوا في الدين ويرجعوا إلى قومهم»، والوعي «لتعيها أذن واعية»، والضبط «هل في ذلك قسم لذي حجر»، فنصل من حافة خمسين موضعا، في الحين الذي لم تأت آية واحدة تحض على الحفظ باعتبارين، الأول أن الذكر محفوظ فاطمئنوا «وإنا له لحافظون»، وأن الأمم الأخرى مطالبة بالحفظ «بما استحفظوا من كتاب الله».
هذا يوصلني إلى تأمل معاهد تحفيظ القرآن التي كان النظام السوري حريصا عليها، بقدر قتل المواطنين بالفقه الفاسد ورجال الفتاوى وطبنجات الحشاشة ورجال المخابرات.
ومع ذلك فإن الحفظ له خمس ورطات: المحافظة وأن يضل عن الفهم وأن يشترى به ثمنا قليلا من موظف فاسد في دور الفتاوى المكرسة لخدمة الحاكم الفاسد الطاغية، وثانيها كتمان الحقيقة وفي اللحظات المصيرية، وأخيرا لبس الحق بالباطل، وهي أخطر الورطات، حين يستخدم إسلام ضد الإسلام كما في مصطلحات الكاتب الليبي النيهوم، وبذلك يمكن استصدار شريعة جديدة باسم الشريعة، وابتكار نموذج مشوه عليه إشارات القداسة، كما فعل صدام مع العلم العراقي حين وضع عليه الله أكبر. والعراقيون يعرفون عين اليقين أن الأكبر في العراق هو صدام وحزبه، حتى جاء الطوفان الأمريكي، كما حصل مع سد مأرب فلم يبق إلا أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، وفي العراق لم يبق إلا كل مأجور وجاسوس ومنافق وعميل ومسكين ويتيم وأسير.
أرسل إلي أحدهم من بلاد الجرمان يسأل عن جدوى إغلاق أو فتح معاهد تحفيظ القرآن، فكان جوابي أن الأمر مثل زيادة نسخ المصحف الشريف، كما قال ذات يوم الإمام محمد عبده حين أخبروه أن فلانا حفظ القرآن؛ فعلق: زادت نسخ القرآن نسخة، ولم يزدد الفهم سطرا. وقبل أيام اجتمعت بأخت فاضلة أبت مدرستها في الكُتاب إلا أن تحفظها إحدى السور الطوال، ثم طلبت أن تعرض لي ولها شيئا من حفظها؛ فقلت لها: ما هكذا تورد الإبل يا سعد! قالت لم أفهم. قلت: الحفظ لا يوصف بأنه جيد، ولو كان جيدا فليس بجيد. قالت: لم أفهم. قلت: النقش في الصغر كالنحت في الحجر. قالت: لم أستوعب. قلت: ذكر القرآن الاستيعاب والفهم والتدبر والتأمل، وهل في ذلك قسم لذي حجر، إن في ذلك لآيات لأولي النهى… وكل مشتقات العقل والفكر والتدبر في 42 موضعا، ولم يذكر الحفظ بالمعنى الذي نقصده هنا في موضع واحد، بل ذكر عكسه. قالت: وكيف ذلك؟ قلت: ذكر القرآن أهل الكتاب بما استُحْفِظوا من الكتاب، أما القرآن فقد تكفل الله بحفظه، فقال في سورة «الحجر»: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. قالت: وما الضير في حفظه؟ قلت: المشكلة ليست في الحفظ، بل المحافظة عليه. قالت: لم أفهم. قلت: حفظه يحتاج إلى سبع سنين دأبا، والمحافظة على ما حفظت يحتاج كل يوم ساعتين من التكرار مثل الآلة المسجلة، وهو تلاوة تحتاج إلى سرعة وعدم تركيز، عكس الفهم بالتوقف الطويل، كما جاء في حديث الصحابي الذي كان يشرح آلية «المكث» و«التنزيل»، وأنه كانت إذا تنزلت عليهم عشر آيات تدبروها ثم عملوا بها، وإلا فلمَ لم يتنزل الكتاب دفعة واحدة؟ تأملي الآية: «وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا». لم يكن القرآن كتاب هندسة ولا رياضيات أو كيمياء أو جبر… كما أنه ليس رواية أدبية للتسلية والمتعة… بل هو كتاب نفسي ينفض الروح وينقي العقل، على العكس مما تفعله أغلب معاهد تحفيظ القرآن، إذ تنتج آلات مسجلة، فتلاميذتها يحفظون آيات لعن فرعون، لكن على شكل محنط ودون معرفة ما وراء ذلك! إن القرآن كتاب جاء لقلب المعاني والمفاهيم، ولتغيير كامل خريطة الإنسان، وهي عملية تربوية شاقة وطويلة، تنقش فيها الآيات على الأعصاب ساخنة في لحظات تقرير المصير ومناسبات القدر الهائلة. في الفهم والتدبر فهناك إنتاج للمعاني، وقد يقف صاحب الفهم أمام آية واحدة ساعتين كاملتين، وليتأمل المرء في آيات المكث! وبالحق أنزلناه وبالحق نزل… وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا…. قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا، ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا. فمن يا ترى من حفظة القرآن يتفاعل معه على هذه الصورة؟
نافذة:
لم يكن القرآن كتاب هندسة ولا رياضيات أو كيمياء أو جبر كما أنه ليس رواية أدبية للتسلية والمتعة بل هو كتاب نفسي ينفض الروح وينقي العقل