طارق الحريري
عندما انهار جدار برلين واختفت الإيديولوجيا التي كانت خلف الجدار في الجزء الشرقي من البلاد، لم يكن أحد يتصور قدرة الألمان على هضم هذا التحول بالسرعة التي تمت بها إعادة التوحيد أو لم الشمل، ولم يكن أحد يتصور أيضا أن سيدة صغيرة مطلقة مِن ألمانيا الشرقية السابقة ستصبح من أهم المستشارين الذين تقلدوا مهام حكم البلاد في العصر الحديث.
ألمانيا هي الدولة الأقوى في الاتحاد الأوروبي اقتصاديا، إذ تحتل المركز الرابع عالميا والأول بين دول الاتحاد الأوروبي في إجمالي الناتج المحلي، لكنها تتراجع عسكريا إلى المركز السادس عشر، طبقا لقائمة «Global Firepower»، حيث تسبقها أوروبيا من دول «حلف الناتو» فرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا.
ساد العالم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي مصطلح «المعجزة الألمانية»، الذي كان يعكس نهضة سريعة وتحولا فائقا في انتقال دولة محطمة دمرها الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية، انتقالا سريعا قفز بها إلى مصاف الدول الكبرى في القارة العجوز، ثم على المستوى العالمي، مما جعلها عضوا مؤسسا في مجموعة الدول السبع (أصحاب أقوى الاقتصاديات في العالم).
في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، أعلنت الحكومة الألمانية عزمها إعادة هيكلة سياستها العسكرية، حيث أصدر المستشار الألماني أولاف شولتز، قرارا غير مسبوق في تاريخ الدولة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، يتم من خلاله تخصيص حزمة مالية لمرة واحدة بقيمة 100 مليار أورو للقوات المسلحة، كما سيتم رفع ميزانية الدفاع إلى 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، تماشيا مع قرارات الناتو.
توزعت المائة مليار أورو كالآتي: 40,9 مليارات أورو للقوات الجوية لشراء 35 طائرة أمريكية من طراز «إف-35»، و15 مقاتلة «يوروفايتر»، و60 مروحية للنقل العسكري من طراز «شينوك». ومبلغ 20 مليار أورو للقوات البحرية خصص لشراء غواصات من طراز «212» وطرادات وفرقاطات، وأدرج للقوات البرية 16 مليار أورو قابلة للزيادة لشراء عربات نقل جند مدرعة، وسيخصص باقي المبلغ لتغطية نفقات زيادة أعداد الأفراد في القوات العاملة واحتياجات المهمات القتالية اللازمة.
رغم تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، بعد تفشي وباء «كورونا» وتفاقمها مع الحرب الأوكرانية، فإن مبلغ دعم الجيش الألماني لن يشكل عبئا مرهقا لميزانية دولة يبلغ إجمالي ناتجها المحلي(GDP) أربعة تريليونات و200 مليار دولار، وهي دولة اتصفت دائما بأنها تمتلك خبراء اقتصاديين كانوا قادرين على إيجاد الحلول لأصعب الظروف عند إعادة بناء الدولة مرتين؛ الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، والأخرى عند إدماج ألمانيا الشرقية باقتصادها الاشتراكي في الدولة الموحدة.
ما أقدمت عليه حكومة برلين كان الخيار الأمثل لمواجهة عدة إشكاليات سياسية وأمنية في وقت واحد، تمثلت في مخاطر الفزاعة الروسية التي تستخدمها الولايات المتحدة للضغط على الأوروبيين كي يرفعوا مساهماتهم في ميزانية حلف الناتو، وهو ما ماطلت ألمانيا طويلا في الالتزام به، لكنها وجدت أخيرا أن الأوضاع الحالية تمنح برلين فرصة للتقدم خطوة مهمة في مجال القوة العسكرية تمنحها مكانة أكثر تميزا في أوروبا.
هناك وجهة نظر لا يمكن تجاهلها، ترى أن النية في تشكيل قوة عسكرية أوروبية قوامها 5000 جندي، بمشاركة دول منطقة اليورو، تعد نواة لقوة عسكرية أوروبية متنامية ومستقلة عن الناتو تتباعد تدريجيا عن حلف الناتو، وصولا إلى مرحلة «فك الارتباط» على المدى الطويل، وتشكيل منظومة دفاعية أوروبية، خاصة إن كان هذا أمرا مستبعدا في المدى القريب والمتوسط، إلا أن الغموض ما زال يحيط بفرص تحقيقه.
الواقع أن ألمانيا راغبة في بناء قوة عسكرية أكثر تطورا وتميزا واتساعا بعد أن تقلصت قواتها في أعقاب انتهاء الحرب الباردة مع سقوط الاتحاد السوفياتي من قرابة 500 ألف جندي عام 1990 إلى 200 ألف حاليا، ويكشف عن العزم المؤكد لهذا التوجه أن التمويل سيتم بالاستدانة من خلال صندوق توجب صلاحيته المالية على المشرعين الالتفاف على مبدأ «كبح المديونية» الصارم في الدستور الذي يحدد سقف استدانة الحكومة، مما استوجب الاتفاق مع المعارضة لتأمين أغلبية الثلثين في البرلمان، لتمرير تعديل دستوري يتيح هذه الخطة.
وفي تصريح لافت، قال شولتس: «هذا القرار سيعزز بدرجة كبيرة أمن ألمانيا وحلفائها في حلف الناتو»، وهذا يعني أن برلين قررت الاضطلاع بدور رئيسي في الدفاع عن دول الاتحاد الأوروبي، وتبوء مكانة أكثر حيوية ذات بعد محوري في حلف شمال الأطلسي. واستطرد في تصريح آخر قصد به الإعلام المحلي: «ألمانيا ستمتلك قريبا أكبر جيش تقليدي في أوروبا»، لكنه تدارك – لحساسية تاريخية تجاه الرايخ الثالث- منوها بأن ذلك سيكون ضمن الناتو.
لاقى قرار الحكومة الألمانية قبولا كبيرا من الشعب الألماني، ووفقا لاستطلاع أجراه معهد «Civey» لبحوث الرأي، فإن ثلاثة أرباع الألمان يؤيدون الصندوق الخاص للقوات المسلحة. لكن الأمر لا يخلو من معارضة اليسار وبعض البرلمانيين من حزبي الخضر والاشتراكي الحاكمين، وبذلك يمكن القول إن المناخ السائد في الدولة الألمانية يؤيد في هذه المرحلة أن تتبوأ برلين موقعا أكثر قوة وتأثيرا في الساحتين الأوروبية والدولية، تتشكل مخرجاته بعد الاقتصاد بتعزيز البعد العسكري.
نافذة:
الواقع أن ألمانيا راغبة في بناء قوة عسكرية أكثر تطورا وتميزا واتساعا بعد أن تقلصت قواتها في أعقاب انتهاء الحرب الباردة مع سقوط الاتحاد السوفياتي