القانون الدولي.. وسلطة التأويل
عبد الإله بلقزيز
أُحيطَ قيام منظمة الأمم المتحدة، لحظة التأسيس وبعيدها، بغير قليل من التبشير بعالم جديد، سينشأ في أكنافها، خلو من الحروب والنزاعات والمظالم التي طبعت الأزمنة السابقة؛ عالم محكوم بالقانون الدولي وأحكامه الملزمة، الضامنة للحقوق والرادعة لمنتهكيها.
وما كان للتبشير ذاك أن يفعل فعله في النفوس، وترتفع به آمال الشعوب إلى الأعالي، لولا أن البشرية قاست كثيرا من تجارب مريرة، في النصف الأول من القرن العشرين؛ من حربين عالميتين مدمرتين أزهقتا أرواح عشرات الملايين من البشر، ومن حروب استعمارية ظالمة سقط فيها ملايين الناس واستبيحت فيها بلدان واحتلت وتعرضت للنهب، ومن حروب على المصالح والنفوذ بين القوى الكبرى انهارت فيها إمبراطوريات وتبددت فيها موارد ومقدرات.
غير أن الأمم المتحدة، التي كانت «كعكة» الانتصار على النازية، اقتسمت بين المنتصرين في الحرب الثانية ولم يستفد منها، كبير استفادة، من كانوا خارج دائرة القوى الكبرى العالمية، فكانت الخيبة عظيمة من هيمنة القوى تلك على النظام الدولي… وحين أعلن جورج بوش الأب، عقب حرب «عاصفة الصحراء» على العراق (1991)، عن ميلاد «نظام دولي جديد» تجددت الآمال، لدى قسم منكوب من البشرية، في رؤية عالم جديد فعلا؛ خال من الحروب والمآسي وعادل في توزيع الحقوق والمصالح، قبل أن تخيب الآمال تلك مجددا، وتتحطم على صخرة هيمنة جديدة جرت في سياق أوحدية قطبية بدت، في النتائج والتبعات، أسوأ من سابقتها (= الثنائية القطبية).
ما الذي قاد النظام الدولي إلى مبارحة منطلقاته وقواعده والجنوح نحو علاقات القوة والهيمنة، وبالتالي الإمعان في سياسات غير عادلة ولا متوازنة؟ وبكلمة؛ لِمَ نَحَا النظام الدولي هذا المنحى مع أنه مشدود إلى مرجعية حاكمة هي القانون الدولي..؟
السؤال مشروع بقدر ما يبدو، أحيانا، غير ذي معنى أمام الإصرار على فرض قواعد أخرى للنظام غير التي ينص عليها القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. غير أن السؤال هذا لا يبدو مشروعا إلا لدى من يستشـعرون خطورة من السياسات المنتهكة لأحكام القانون الدولي؛ وهؤلاء من المتضررين من السياسات تلك، من الدول الضعيفة والمغلوبة على أمرها. أما المستفيدون منها فلا يجدون مبررا لطرح السؤال ذاك أصلا.
نحن، إذن، أمام روايتين عن السياسات واتصالها بمقتضيات القانون الدولي أو عدم اتصالها بها؛ وهما (روايتان) على طرفي نقيض: انتهاك القانون/ احترام القانون. فأيهما أصوب أو أقرب إلى واقع الحال؟
من النافل القول إن مَن يتهمون القوى الكبرى بانتهاك القانون لهم حججهم التي بها يسوغون ذلك الاتهام، وقد يكون أهمها: الإحجام عن تطبيق القوى الكبرى – كلا أو بعضا- قرارات مبنية على أحكام الميثاق والتحيف، بذلك، في حق من ستمتعهم تلك القرارات بحقوقهم، أو ببعض منها. ثم قد يكون من أهمها سلوك مسـلك الانتقائية في التعامل مع القانون الدولي؛ بحيث يطبق فيها ما يناسب مصالح مَن يطبقه، ويطرح منها ما لا يناسبها.
غير أن الكثير مما يعده كثيرون انتهاكا، تُعرفه الدول الكبرى بما هو احترام للمقتضيات والأحكام، ونجد في تعريفها إياه كذلك بعض الصحة من حيث الشكل. نعم، صحيح أنها، في الأعم الأغلب، لا تلجأ إلى فرض قوانين أخرى (قومية مثلا) مخالفة للقانون الدولي (= رفض الولايات المتحدة، مثلا، الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية التي تحكم بغير القوانين الأمريكية، أو رفض إسرائيل التوقيع على معاهدة عدم انتشار السلاح الذري، أو اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة للدولة العبرية أو بشرعية الاستيطان في الضفة الغربية…)، ولكنها إذ «تحترم»، في حالات أخرى، القانون الدولي تفعل ذلك بعد تأويله بما يتناسب ومصالحها؛ والتأويل
– كما هو بين- ليس المعنى الوحيد الحصري للنص، لذلك تتعدد التأويلات وتتضارب.
هكذا نصل إلى بيت القصيد في مسألة النظام الدولي ومكانة القانون الدولي فيه. إن القوي، عادة، هو من يفرض قانونه؛ وهل فرض القانون الدولي غير الأقوياء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية؟ هذه واحدة؛ الثانية أن القانون هذا – وإن كان قانون أقوياء- يحفظ بعض مصالح من ليسوا في زمرة الأقوياء، ولذلك هم يوافقون عليه ويعولون، ولكن، ثالثا، لا يملك سلطة تأويل القانون وفرض تأويله، بوصفه التأويل الرسمي الوحيد، إلا القوي. هكذا ينتصر التأويل على النص فلا يبقى للنص من فائدة أو جدوى مع فقدان سلطة تأويله.