أحمد مصطفى
لا أدري لماذا ذكرني فيلم «نتفليكس» حول كليوباترا، الذي يثير جدلا واسعا يتجاوز الفن والتاريخ إلى اتهامات أخطر تتعلق بتزييف متعمد للوعي العام وبالعنصرية والعنصرية المضادة، بفيلم قديم للمخرج ستانلي كوبريك، بعنوان د. سترينجلف أو كيف تعلمت ألا أقلق وأحب القنبلة.
لا أريد الخوض في الجدل الدائر بشأن كليوباترا، هل كانت سمراء أم بيضاء أم إفريقية أم أوروبية، ولا حتى تطور وبروز الجماعات الهامشية منذ العقود الأخيرة من القرن الماضي، والتي أصبحت تفرض نفسها فرضا قسريا، رغم اتهام الأغلبية بافتراءات تعلي من صوتها وتعطيها قيمة «منتفخة» لا تعكس أي حقيقة في الواقع.
إنما فقط أثار الجدل الإعلامي، وأغلبه سطحي وفارغ على ما يبدو، مسألة علاقة الفن بالتاريخ، سواء في العصور القديمة أو عصرنا الحديث. تقول الحكمة الشائعة إن التاريخ يكتبه المنتصرون، وبالتالي لا يمكن أخذ كل ما يتواتر إلينا دون تمحيص، وتلك مهمة دارسي التاريخ الذي يشهد دوما «إعادة نظر» ومراجعة. وبالطبع، لا تخلو المراجعات من آفة «الهوى»، حيث لدى بعض الباحثين قناعات مسبقة تجعل حتى نقدهم للتاريخ لا يقل «تزييفا»، عما صدره «المنتصرون» من تمجيد لهم وتقزيم لمن انتصروا عليهم.
أما بالنسبة لمن يدافعون عن «نتفليكس»، أو عن «الإبداع» عموما، فأتصور أنهم يخوضون «حربا وهمية» أيضا لا تقل خطورة عن أعداء الفن من الأصوليين والدهماء. لأنهم في دفاعهم، وهو منطقي لم يناصر الإبداع عموما وليس في الفن فقط، إنما يروجون ضمنا لفصل الفن عن التاريخ – على الأقل لدى الجمهور العام.
إنما الأقرب للمنطق هو أن الفن ربما كان من أصدق طرق حفظ التاريخ، وغالبا ما يلجأ إليه الدارسون لتمحيص روايات المنتصرين أو الملفقين، مغالاة ودعاية في كتابة التاريخ. إنما هي الفجاجة والسطحية وانتفاء الأصالة الإبداعية، التي تجعل ذلك الجدل الحالي حول فيلم «نتفليكس» عالي الصوت بلا قيمة حقيقية. مع أنه سبق أن طرح فنيا، رسما أو تمثيلا، أن المسيح عليه السلام كان أسمر اللون، وليس أبيض كما تصوره الرسومات الكنسية. لكن ذلك لم يثر جدلا كالذي نشهده حاليا. والحقيقة أن الفن لعب دورا مهما في تاريخ الأديان.
أما في التاريخ السياسي والاجتماعي، فكان الفن منذ أقدم العصور «رواية تاريخية»، تكون أحيانا أكثر دقة من كتب التاريخ التي وضعها المؤرخون الكبار ووصلت إلينا.
بالطبع، في الفن كما في التأريخ المكتوب، يحكم «الهوى» ولا يمكن أن يؤخذ الأمر على وجه الدقة باعتباره الحقيقة. لكن الفن إما يؤصل لما وصلنا من تاريخ، أو يجعلنا نعيد النظر في رواياته بغرض الوصول إلى الأقرب لما حدث – فليس هناك شيء دقيق بالمطلق في كل العلوم الإنسانية، ومنها التاريخ.
يقول صديقي مهدي النمر، الفنان الإيطالي من أصل مصري، إن أباطرة الرومان ومن بعدهم استخدموا الفنون أيضا لإعطاء مصداقية للروايات التاريخية التي ستحمل عصرهم لأجيال قادمة. ويضرب مثلا شهيرا بالفنان المعماري الذي بنى أشهر المباني الرومانية (البانثيون)، وقرب الإمبراطور تراجان، وقتله الإمبراطور هادريان. الشائع عنه أنه «أبولودورو الدمشقي» كسوري من أصل يوناني، جيء به إلى روما، وقتما كانت دمشق جزءا من الإمبراطورية الرومانية. لكن دارسي الفن وتاريخه أكدوا، قبل سنوات قليلة، أنه لم يكن يوناني الأصل، وإنما هو عربي نبطي الأصل.
لماذا إذا تم ترسيخ أنه يوناني لنحو ألفي عام.. فلهذا تفسير أيضا لا يخلو من عكس واقعنا الحالي على التاريخ. فلم يكن ممكنا للرومان أن يكون من يبدع آثارهم العظيمة، من مباني وجسور وأعمدة ومسلات، فنانا ليس «شبههم». وبالتالي اعتبروه عربيا من أصل يوناني. أ نقول عنصرية، أم سطوة منتصر على التاريخ والفن معا؟ لنتذكر العام الماضي كيف انفعل المراسلون الأوروبيون والأمريكيون، وهم يغطون بداية حرب أوكرانيا، ليقولوا على الهواء عن نازحين أوكرانيين: «معقولة! إنهم شبهنا وليسوا عربا أو أفارقة».
ذلك مجرد مثال من تاريخ قديم يعود إلى نحو قرنين عن المعماري الدمشقي. أما فيلم ستانلي كوبريكا، تمثيل بيتر سيللرز، في منتصف ستينيات القرن الماضي، فربما لا يبدو له أي علاقة بالتاريخ. لكنه رسخ لدى الجمهور في الغرب، ليس فقط خطورة السلاح النووي، وإنما أيضا رسم صورة ضمنية لا يشعر بها المشاهد، لكنها تترسخ في وعيه عن التفوق الأمريكي على السوفيات. وإن كان الفيلم سخر من هوس اليمين الأمريكي المتطرف بالخطر الشيوعي، لكن تلك السخرية غذت مخاوف لطالما استخدمها الساسة في تلك الحقبة، لقمع حرية الرأي وحقوق الإنسان. ولمن شاهد الفيلم، وضحك على تخيل الجنرال الأمريكي الذي قرر ضرب السوفيات بالقنبلة النووية، أن الشيوعيين في أمريكا يضعون مادة في مياه الشرب تضر بالأمريكيين، لا شك أن الضحك لم يمنع أن الفكرة السخيفة ربما صدقها كثيرون. بالضبط كما يصدق البعض افتراءات مواقع التواصل حاليا، التي تكاد تطغى على الدور الذي كان يقوم به فن السينما وغيره من فنون التوصيل للجماهير، قبل عقود.
نافذة:
الفن ربما كان من أصدق طرق حفظ التاريخ وغالبا ما يلجأ إليه الدارسون لتمحيص روايات المنتصرين أو الملفقين مغالاة ودعاية في كتابة التاريخ