العقل العربي ومآلاته
عبد الغني العمري الحسني
جعل الله من خصائص العقل الآدمي، الوهم الذي قد يعطي صورا للحقيقة على غير ما هي عليه. وهذا هو ما يجعل العقول كلها مدعية لإصابة الحق، وإن كانت على التقابل والتعارض. ومع هذا، فلا أحد يسأل نفسه بجدية: وماذا لو كنت مخطئا، وكان خصمي على صواب؟ إن العقول التي تبني نسقها، وتطمئن إليه، من دون أن تعرض ما لديها على روائز غيرها، تكون مغامِرة بمصيرها، من غير شك. وفي الغالب يكون هذا بسبب ضعف الإدراك، الذي يجعل صاحبه لا يتمكن من الخروج عن التقليد؛ أو يكون بسبب الوقوع تحت حكم الأيديولوجيا، التي من شأنها أن تُعمي عما هو خارجها من أنساق. كل هذه الأصناف من العقول، لا كلام معها، لقصورها عن أهلية الحوار العقلاني الصحيح. وأما عقل الفيلسوف، فيُفترض فيه أن لا يقع في الوهم؛ لأنه عقل نقدي، لا يبحث عن الطمأنينة الشخصية، وإنما عن الحقيقة!… لكنه مع ذلك، قد يقع في الوهم، عندما يخطئ الطريق عند التشعيبات. وعلى عكس العوام، فإن ضعف عقل الفيلسوف قوته، مع غياب النور. ذلك لأن الفيلسوف، إن لم يكن يجيد قيادة عقله، ضمن عملية التفكر، ليبقى على الطرق الرئيسة من دون الخروج إلى الثانوية (قياسا على الطريق المحسوس)، فإنه سيصاب بإدمان الفكر. وإدمان الفكر، ليس تفكرا مجديا، بقدر ما هو رياضة عقلية، تأخذ العقل في اتجاه كل الاحتمالات. وهذا الصنف من التفكير، لا يمكن أن تُرجى من ورائه غاية. إن جل الفلسفات، عيبها أنها نظريات غير قابلة للتطبيق (مطابقة الحقيقة). وهذا يجعلها في النهاية مطلب الطبقات النخبوية، التي لها المقدرة على التفكر، إلى جانب الرخاء وبحبوحة العيش في الغالب. وهذا كله، يكون محصورا في فئة مخصوصة، لا تقبل هي نفسها في العادة، أن تشارك الآخرين ما هي عليه. والحقيقة لا يمكن أن تكون حكرا على قوم، دون آخرين؛ كما لا تكون متاحة لكل أحد، بحسب ما يريد هو فحسب. إن الحقيقة من وراء كل وهم لكل متوهم؛ لأنها جامعة وشاملة وناظمة لكل وهم وكل حقيقة. إن عودة العقل إلى نفسه، في معرفة الحقيقة، هي من أدل الأمور على عدم أهليته لها؛ لأنه بهذا الفعل مخالف لما هو عليه الوجود في ترتيبه. ولقد كان ينبغي على العقل، أن يعود إلى موجده ليكون موافقا لأصول سلوكه (سيره نحو الحقيقة). هذا لأن العقل يجزم أن وجوده ليس من نفسه؛ ولا يصح أن يكون ذلك. وهذا عام، لا يختلف عليه الملحدون أيضا، وإن كانوا يزعمون أنهم لا يؤمنون بالله. وهذا مبحث لن نخوض فيه الآن. عندما شرع الله الشرائع للناس، فإنما هداهم من أقصر طريق إلى الحقيقة. ولكن الناس مع الشرائع أحوالهم مختلفة، بحسب مراتب عقولهم ذاتها. فمنهم القلة الذين حافظوا على الأصل، وهؤلاء في تناقص مع الزمان (الغرباء). ومنهم من غلب عليه اعتبار مصلحته الأبدية، فاكتفى بالانصياع الظاهري للأوامر الشرعية، مع الحرص على عدم الخروج من الدنيا خالي الوفاض. ومنهم من اتخذ الشرائع بقالة يبيع فيها ويشتري، وكأنه غير معني شخصيا بما يعني الآخرين. ومنهم العوام الذين صار الدين لديهم ثقافة وانتماء، يتخذونه مَعلما يتمسكون به في هذا الفضاء العقلي الواسع والمخيف. إن العقول، على اختلافها، وسواء كانت على دين أم على فكر، لا بد أنها تنظر إلى محور تدور عليه في جميع أمورها، يكون حقيقة مرجعية بالنسبة إليها؛ تكلمت بذلك وأعلنته، أم أخذتها الشؤون اليومية عن تعقل فعلها ومآلاته. فهل تكون الحقيقة نسبية، بهذا الاعتبار، كما فهم ذلك قوم؟ أم إن الأمر على غير ذلك؟ وكيف؟… وحتى نبيّن أول الطريق، في الإجابة عن هذه الأسئلة، ينبغي علينا في البداية التفريق في الحقيقة بين اعتبارين: الوجودي، والإدراكي. فالوجودي ما هو كائن، من غير نظر إلى أمر خارجي عنه. والإدراكي، هو ما يتعلق بنظر العقول إلى هذا الأمر الوجودي. فمن ناحية الاعتبار الوجودي، كل الناس على حقيقة صحيحة معتبرة، من رأى فيها خلاف ذلك، كان عند أهل الحقيقة من الجاهلين. وأما من الناحية الإدراكية، فلا يكون من أهل الحقيقة إلا من آتاه الله مفاتيح الحقائق كلها، ليعلم مرجع كل حقيقة وأحوال أهلها معها. والحقيقة بهذا الاعتبار تكون واحدة، وتكون الصور المرئية للعقول الأخرى من غير هذا الصنف المخصوص، أوهاما لا حقيقة. وعلى هذا، فإن جل العقول المنافحة عما تراه حقيقة، إنما هي تنافح عن وهمها. وعلامة هذا الصنف، أنه لا يقبل ما يهد ما يراه مركزيا، لأنه بالنسبة إليه وجودي. فإن قيل: إن هذا نفسه، يحدث من أهل الدين؛ بل إنهم قد يكونون أعنف من غيرهم في الدفاع عن معتقداتهم، من أهل العقول المجردة! قلنا: هذا صحيح! وهو يدل على أن الوهم لا يخلو منه أهل الدين أيضا؛ ما داموا لا يدركون الحقيقة كما هي في نفسها. هم يتصورون الحقيقة على ما يعلمونه من الدين بواسطة عقولهم. فهم في النهاية يأخذون عن عقولهم، لا عن الدين، في كل شيء. وهذا أمر يجهلونه، ويظنون أنهم متميّزون فيه عن سواهم. نعم إن هذا الصنف، معتبر في الشريعة، وهو أفضل من غير المتدينين من غير شك؛ لكنهم ليسوا من أهل الحقيقة في الدين بالقطع. ولهذا السبب كنا نحن نؤنب الفقهاء باستمرار؛ فلو لم يكونوا من أهل التوهم، لم يجز لنا فعل ذلك!… إن ترتيب العقول يقتضي أن لا يتكلم في الأمور إلا أهلها. فعوام أهل الدين وعوام أهل الفكر، لا ينبغي لهم الخوض في المعقولات العليا؛ لأنهم سيدخلونها دون أن يخرجوا منها بشيء. وهذه الفوضى التي نعيشها في الجانبين، هي نتاج للإخلال بالترتيب، الذي كان ينبغي معه، أن يقدِّم كل فريق من هو إمام لديه حقيقة. وإيهام العوام بأن لهم القدرة على الخوض فيما لا يحسنون، هو من استعمالهم في مآرب أخرى لا يعلمون مَن خلفها، ولا مصلحة من تخدم. إن ما يفعله الحاوي من إيهام للناس في الأسواق وقاعات العروض، هو نفسه ما يفعله أصحاب الفكر الضلالي، عندما يُظهرون شيئا، في صورة تخالف ما تؤول إليه الأمور فيه، لدى الناظرين من القاصرين. ولولا الوهم، لما كان هذا التنوع في الحقيقة، التي تشمله وتحيط به بالتأكيد