شوف تشوف

الرأيالرئيسية

 الطريق الصعب إلى الحقيقة

 

مقالات ذات صلة

 

بقلم: خالص جلبي

راسلني أخ فاضل يقول إنه وقع أخيرا على كنز معرفي في 43 حلقة لرجل يدعي وصلا بالحقيقة، وإنه فكك جوهر القرآن فوصل إلى لبه، ووضع يده على مخ الحقيقة خالصة، وإن أسرار القرآن باحت له بتفاصيلها.. ومثل هذا الادعاء سمعته منذ أن كنت صغيرا، وأذكر أنني رجعت يوما إلى البيت طفلا ووالدتي تصرخ فرحا أن الشيخ محمود رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وهو ينذر أمته من شر قادم، وأن الحل في سورة «الأنعام»، والدليل هو شعرة من لحية النبي (ص). قالت أمي وهي تقلب القرآن التركي بين يديها، حيث لم تكن تعرف العربية، وتقسم بالله وهي تشير إلى بقية من ندفة صوف أنها شعرة النبي لا ريب فيها. كانت رسالة الشيخ محمود مكونة من صفحة من مزاعم، يقول فيها إن أعظم الفضل هو كتابة مائة نسخة منها وتوزيعها على كل من يعرف، وينصحه باستنساخ مائة، فيعم الفضل ولا يبقى بيت حجر ومدر ووبر إلا ودخلت عليه نصيحة الشيخ محمود، الذي رأى النبي (ص) في المنام. ولو كان في أيامنا لصور منها مائة ألف أو يزيدون، أو وزعها ببساطة في عالم النت، كما هو حال طوفان «اليوتيوب» و«التيك توك» هذه الأيام، فيبحر فيه كل تافه وكذاب ومدعي للحقيقة، في كثير من السخف والهذيان وقلة الحياء والمجون.

ومثل هذه القصص كما في قصة الإمام الذي اختفى في السرداب، قبل ألف عام، أو المسيح الذي قفز إلى السماء فأتباعه يحتفلون كل عام بحمل الصليب إلى جبل الجلجثة مع الموسيقى الحزينة، أو الشيعة وهم يلطمون أنفسهم كل عام بالسلاسل والناس تزعق واحسيناه، ثم يتوجهون إلى قتل أولاد يزيد السوريين في درعا والغوطة. والحاصل تأتيني الرسائل و«اليوتيوب» كل يوم عن مزاعم كثيرة وأنبياء كذبة ودجالين رائعين، ومشعوذين فنانين ومهرطقين مردة يعتلون صهوة البيان في المحطات الفضائية، ويبقى طريق الوصول إلى الحقيقة صعبا وعرا.

أذكر من الإنجيل فقرة يقول فيها المعلم ما أرحب الطريق الذي يقود إلى الهلاك وكثيرون يسلكونه، وما أضيق الطريق الذي يقود إلى الخلاص وقليل من يسلكه.

ونرجع إلى الساحر اللغوي الجديد وهو يفسر قصة نوح، فيخرج منها بأشياء عجيبة مثل أن من ركب السفينة كانوا فريقين كفرة ومؤمنين! ولكن كيف والقصة كلها تقوم على أن نوحا قال لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا؟ هنا يأتي الساحر اللغوي فيلعب بالفقرة القرآنية، ويقول تأملوا هذه اٍلآية و(أهلك) إلا من سبق عليه القول ومن آمن. (مات وهلك إلا من آمن ومن سبق عليه القول، أي لم يؤمن! يقول الرجل ـ عفوا اللاعب في سيرك اللغة ـ ليخرج أرانب بيضاء من القبعات السوداء. نحن هنا أمام فقرة واضحة أن من ركب السفينة مع نوح بعد أن هلك من هلك، هم من سبق عليه القول، ومن قد آمن. هنا نحن أمام كلمة (أهلك) بمعنى الهلاك والفناء، وإلا بمعنى عائلتك ومن حولك؛ فإن لعبنا بالكلمة لغويا فيمكن أن نخرج من القبعات السوداء أرانب بيضاء، ولكن السياق كله يقول إن نوحا دعا الرب وكلفه بأن يبني سفينة تنفع يوم الطوفان، فيمسح المجتمع الوثني من وجه الأرض. أسئلة ملحة عن نوح، ليس القصد منها نوح، بقدر طرق التداخل المعرفية من أجل الوصول إلى الحقائق، بكلمة أدق محاولة الوصول إلى درب الحقيقة.

والنموذج الذي بين يدي يشكل طريقتين منفصلتين للوصول إلى الحقيقة مجسدة في قصة نوح والطوفان؛ الطريقة الأولى هي توليد الحقائق من الألفاظ، والثانية الوصول إلى درك الحقائق من البحث في الأرض والتاريخ والوقائع. نموذج هذا ما طرحته أنا عن قصة نوح والأبحاث الأركيولوجية، والثانية الطريقة اللغوية التي اعتمدها بعضهم من تفكيك النص القرآني، وبناء الحقائق من اللغة. لقد راسلني أخ فاضل أيضا من مدينة الجديدة، عن وجه سعودي جديد في 172 فيديو، وهو يدعي انه يقص الحق وهو خير الفاصلين.

والآن إلى المعمل والعمليات، فمتى حدث الطوفان؟ وأين حدث الطوفان؟ هل فعلا عم الكرة الأرضية كلها؟ هل من دلائل أركيولوجية وأنثروبولوجية وبالينتولوجية عن ظروف حدوث مثل هذا الطوفان الذي لم يبق ويذر؟ هل من المعقول أن نوحا حمل على سفينة متواضعة، ربما أصغر من سفن كولومبوس حيوانات الأرض جميعا؟ لماذا حدث الطوفان وما هي دلالته التاريخية؟ متى عاش نوح أنثروبولوجيا، وكيف عاش أكثر من ألف سنة؟ ثم ما هي طبيعة الصراع الذي نشب بينه والمجتمع المحيط به؟ كل هذه الأسئلة أضعها تحت المجهر ليس فقط من أجل القصة؛ بل من أجل المناهج المعرفية للوصول إلى الحقيقة.

أقول هذا من أجل كيفية الدخول على الحدث التاريخي لتفكيكه، وهو ما نسميه في علم الجراحة المدخل أو الأداة(Approach) ، فالدخول لاستئصال الزائدة الدودية، يتم بمشرط وملقط ومبعِّد وخيط، والموضوع كما يقول ديكارت إنه لا يدور حول ذكاء وغباء، بل كيف نوجه عقولنا، ومنه وضع هندسته العقلية بعنوان (المقال على المنهج).  مرة أخرى أكرر مع أرسطو قوله لأفلاطون: أنت عزيز علي، ولكن الحقيقة أحب إلي. أو هكذا نزعم؛ فالحقيقة النهائية هي عند الرب، ونحن باجتهادنا قد نقترب من الحقيقة شبرا أو نبتعد قدر أربعين خريفا. وينقل عن «ليسنغ»، من فلاسفة التنوير، قوله: لو وضع الله الحقيقة المطلقة في يمناه، والشوق إلى البحث في يسراه ومعها الخطأ لزاما لي، ثم قال لي اختر، إذا لجثوت على ركبتي ضارعا وقلت: يا رب بل التي في يسراك، فالحقيقة المطلقة هي ملك لك وحدك لا شريك لك.

 

نافذة:

أسئلة ملحة عن نوح ليس القصد منها نوح بقدر طرق التداخل المعرفية من أجل الوصول إلى الحقائق بكلمة أدق محاولة الوصول إلى درب الحقيقة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى