الصديقي ساحر التلفزيون
هل أخطأ الطيب الصديقي طريقه، بعد أن فتنه التلفزيون بأضوائه، وصار واحدا من أبرز مقدمي البرامج التلفزيونية، ذات النكهة الفكاهية اللاذعة؟ في أي حال فإن قلائل يعرفونه بهذه الصفة، وقد أمضى بضع سنوات كمنتج تلفزيوني يسخر من كل شيء، وربما أن السخرية التي لا تفارقه جلبت عليه متاعب جمة جعلته يغادر فضاء التلفزيون نحو محراب المسرح.
الفرق أن سخرية المسرح محدودة بأعداد الجمهور الذي تغص به القاعات، بينما التلفزيون يوجه أعماله لعموم الناس، فتكون فلتاته ذات الإيحاءات النقدية أكثر انتشارا. ولأن برامج الصديقي في فترة انطلاق البث التلفزيوني كانت انتقادية لا تستثني أي مجال سياسي أو اقتصادي أو ثقافي، فقد تعرضت لخنق أنفاسها.. لأن الأصل فيها أنها لم تكن هجينة وبلا معنى، شأن ما تحفل به بعض برامج اليوم.
في أكثر من جلسة كان الصديقي يستهزئ مما يعتبره فهما سطحيا لدور الصورة. إذ تقول مقدمة برنامج الطبخ إنها تمسك بالبصل وتقطعه إربا إربا، مع أن حركاتها تدل على ذلك، دونما الحاجة إلى ترجمة فعلها إلى كلمات. وعلى العكس من ذلك فالفن المسرحي يعتمد الإيحاء والإشارة. ما دفع مدارس فنية إلى اختزال الديكور وتعويضه بالحركات والكلمات ضمن ما يعرف بـ«المسرح الفقير»، وقد برع الصديقي في تغليب الحركة على الكلام، بل إن نصوص مسرحياته يمكن ألا تزيد عن بضع صفحات أمام عرض يزيد عن ساعتين.
فاقت شهرته في تأصيل المسرح العربي غيرها من تجاربه، منذ قدم «رسالة الغفران» لعز الدين المدني، و«مقامات بديع الزمان الهمداني» و«سيدي عبد الرحمن المجذوب»، و«رسالة المعري» وغيرها كثير. بينما ميزته الأخرى أنه مبدع اقتبس أعمالا عالمية عن موليير وجان بول سارتر وكولدوني وصامويل بيكيت ويوجين يونسكو والروسي غوغول وكتاب آخرين. واختار لها أسماء وعناوين مغربية مثل «مومو بوخرصة» و«مولات الفندق» و«عمايل جحا». وبقيت الفترة التي أمضاها منتجا ومقدم برامج تلفزيونية شبه منسية، لأنه راح يبحث عن الناس عبر «مسرح الناس» وطلق التلفزيون بغير الثلاث البائنة.
حدث أن عاد الصديقي إلى التلفزيون بعد ابتعاد اضطراري دام حوالي عشرين عاما. فقد جذبه المهندس الفرنسي أندريه باكار إلى مجموعته التي أطلقت شعار «التلفزة تتحرك» وكان وراء كثير من المبادرات الفنية التي لم يسعفه الحظ في إنجازها يوم كان مقدما. والحال أن الممثل الفاضلي الذي عرف بمستملحات النشرات الجوية، كان يستوحي بعضا من سخرية الصديقي.
لكن فرجة التلفزيون لا تصنعها الإمكانات وعناصر الإبهار فقط، بل هي جزء من منظور شامل لما يجب أن تكون عليه الواجهة الإعلامية، وأشفق كثير من زوار المغرب من مفكرين ومبدعين على حالة بلاد لم تفلح في صنع تلفزيون يعكس حيويتها ومجالات نقاشها والقضايا التي تستأثر باهتمام الرأي العام. لكأنما هناك إصرار على تسفيه الثقافة وإشاعة الابتذال.
ما من مسؤول على مختلف المستويات إلا وتتملكه غصة هذا الوضع غير المفهوم. ويوم فكر وزير إعلام سابق في إنقاذ الموقف، مستوحيا ما دار في جلسة خصوصية من انتقاد لمحدودية الأداء التلفزيوني، مال في اتجاه مخرج عربي كبير يسأله إن كان في وسعه إنجاز مسلسل تلفزيوني لفائدة المغرب. رد عليه الأخير بالقول: أما عن موضوع المسلسل فلا أرى بديلا عن سيرة الرحالة ابن بطوطة، وفي ما يخص الإخراج، كيف تطلبون من فنان مثلي أن يتجرأ على مجال لكم فيه أحد كبار المخرجين المسرحيين العالميين الذي اسمه الطيب الصديقي؟
أقبرت الفكرة لأن المنتوج المحلي لا رنين له. ولو أنه كان مثار إعجاب وتقدير من كبار النقاد، لدرجة أن الناقد علي الراعي أفرد الشيء الكثير لإبداعات صاحب «الراس والشعكوكة».
لم يستطع أن يملأ الفراغ الذي أحدثه في فترة غيابه عن التلفزيون كمنتج فكاهة بناءة، سوى الثنائي «بزيز وباز» الذي تمكن من نقل طرافة المسرح إلى التلفزيون بطريقة جذابة، خالية من الإقحام والتصنع وافتعال الضحك الذي يقال عنه حين يكون بلا سبب، إنه من قلة الأدب. غير أن الضحك الذي يريده التلفزيون لا يروم الترفيه عن المشاهدين، بل الضحك عليهم. وتلك من علامات بؤس الفكر والذوق والابتذال.
قيل عن الطيب الصديقي عندما قدم «في انتظار مبروك» كناية بـ«انتظار غودو» الذي يأتي أو لا يأتي أبدا، إنه أدخل فن اللامعقول إلى المسرح المغربي من بابه الواسع. وتعاظمت الإشادة بمسرحياته التراثية التي أفسحت المجال أمام شخصيات تاريخية اعتلت خشبة المسرح، على إيقاع العصر. إلا أن برامجه التلفزيونية لم تنل ما تستحقه من اعتبار لأنه كان سابقا لوقته. يستفز اللحظة والمشاهد في آن واحد، وكثيرا ما اشتكى سياسيون ورسميون من تعليقاته اللاذعة.
وأختم بموقف سبق أن عبر عنه يوم كان بصدد التفكير في الترشح للبرلمان. قال ضمن مستملحاته إنه سيصوت برفض ميزانية القصر. كان ذلك في العام 1984، وقبل أن يتعرض للسؤال لماذا سيعارض تلك الميزانية، رد الصديقي بأسلوبه: سأقول لا لأنها ميزانية غير كافية.