الصبر والمكر
بقلم: خالص جلبي
ليس ثمة عدو للإنسان أكثر من فقده لصبره. وفي سورة مختصرة قصيرة ثمة تركيز على أربع صفات، هي مفتاح تشكيل شخصية المؤمن في العصر، إنه لفي خسر إلا الإيمان، والعمل الصالح، والمحافظة على ضبط النفس وتدريبها بالصبر، والتواصي بالحق والحقيقة. هذه الصفات إنسانية المنشأ، هي عمود فقري في كل ثقافة والله لا يحب الظالمين. أنا شخصيا اطلعت على ثقافات متباينة، ورصدت كتابي «كليلة ودمنة الجديد» متتبعا آثار ابن المقفع، فوضعت 200 قصة من التراث العالمي في أربعة مجلدات عن القصص العالمية ودروس الأيام وعظاتها. وبين يدينا الآن قصة رائعة عن مزيج لا يصل إليه إلا الأفراد القليلون من ضبط النفس والصبر والتخطيط البطيء، مثل من يلعب لعبة الشطرنح. من هذه القصص وقعت على ثروة رائعة عند الكاتب، روبرت غرين، في كتابه «القوة Power»، وقام بترجمة الكتاب، البجيرمي، على نحو جميل. وهذا الكتاب قبل ترجمته إلى العربية، وقعت عليه في مجلة «دير شبيغل» الألمانية، حين أشاروا إليه، واعتماد 48 قاعدة في لعبة القوة. من هذه القصص أضع بين يدي القارئ هذه القصة المعبرة، عن جدلية المكر والصبر.
في العشرينات من القرن العشرين، استطاع الإمبراطور «راس تافاري» الذي اتخذ لاحقا اسم «هيلا سيلاسي» توحيد الحبشة، بين قبائل تتناحر وزعامات من رجالات الحرب لا نهاية لهم. وكان ما يلفت النظر شكله الناعم، وطبقة صوته المنخفضة. وبدأت تلك الزعامات بالتوافد عليه إلى العاصمة «أديس أبابا»، لإعلان الإخلاص والطاعة للعرش الإمبراطوري. وكان توافد الرجال بين مستعجل ومتردد أو متباطئ، ولكن رجلا محاربا شديدا هو «جازماخ بالخا» من «سيدامو» في الجنوب، رفض الدخول مع الداخلين. وكان رجلا محاربا يخشى جانبه. وانتظره هيلا سيلاسي طويلا بدون فائدة، حتى كان اليوم الذي طلبه الإمبراطور للحضور إلى العاصمة ليقابله، فتظاهر بالامتثال وحضر ومعه جيش من المحاربين قوامه عشرة آلاف مقاتل، حتى وصل قريبا من العاصمة فعسكر على بعد خمسة كيلومترات على أمل أن يأتي إليه الإمبراطور شخصيا، وإلا كانت البداية لإشعال فتيل الحرب الأهلية. إلا أن هيلا سيلاسي كان طويل البال لم يعهد عنه الغضب أو فقد الأعصاب، وكان قد أعد له خطة محكمة تسير وفق مراحل، مثل لعبة الشطرنج تماما، بمكر سياسي بارع. قام هيلا سيلاسي أولا بإرسال من يفاوض له ويدعو بالخا للحضور إليه بدون خوف أو مكيدة، ولكن بالخا كان يعلم معنى حضوره انفراديا، أن مصيره سيكون مثل أبي مسلم الخراساني مع أبي جعفر المنصور، فأبى الحضور إلا مع جنده، فوافق هيلا سيلاسي وقال إنه شرف كبير أن يستقبل محاربا شهما مع جنوده الشجعان، في قصر الحكم. قام بالخا بانتقاء 600 من خيرة جنوده، وأوصاهم أن لا يفرطوا في الشراب، وأن يبقوا مستيقظين لأي بادرة خيانة. ثم سار بجنوده لمقابلة الإمبراطور، الذي أظهر له من الحفاوة والكرم الشيء الكثير. وعندما دخلوا القصر أظهر هيلا سيلاسي من ضروب الاحترام، ما أشعر بالخا أنه من يقرر الأمور، وأن سيلاسي يحتاج مساعدته بشكل ملح، لتسيير أمور الدولة والحكم ومقتضيات السياسة. إلا أن بالخا لم يكن بذلك الأحمق، فحذر هيلا سيلاسي أن عليه العودة إلى معسكره مع الغروب، وأنه قد أعطى تعليماته لجيشه المرابط أن أي تأخر في الحضور يعني المكيدة، وعليهم مهاجمة العاصمة. كان ارتكاس الإمبراطور هادئا، وأظهر له أنه بعدم ثقته به، يعني الكثير من جرح الكرامة. ثم دعاهم إلى تناول الطعام المعد بعناية، وعندما جاء دور عزف الموسيقى، لم يكن هناك سوى تمجيد بالخا القادم من سيدامو. هذه الخطوات أدخلت إلى قلب بالخا أن هيلا سيلاسي خائف منه، وأنه أمام هذا المحارب العنيد يطلب وده بأي ثمن. ثم بدأ يفكر في مصير الإمبراطور هل سيرسله إلى حبس انفرادي لبقية عمره، أو يقضي عليه؟ وقبل الغروب انصرف بالخا وجنوده مزهوا بقوته، بين صرخات التحية وعيارات نارية تحية من أهل العاصمة. وعندما ألقى النظرة الأخيرة، بدأ يفكر في كيفية الانقضاض على العاصمة، في الأسابيع المقبلة. ولكن المفاجأة الكبيرة له كانت عندما رجع إلى معسكره، ليجده خاويا على عروشه، فلم تبق خيمة أو رجل. وعندما سأل روع بالخبر، فقد جاء جيش تابع للإمبراطور يحمل الكثير من المال والذهب، فاوض الجنود على تسليم أسلحتهم ومن امتنع مارس عليه التخويف، وخلال ساعات مزقوا شر ممزق، فتم نزع سلاح الأفراد وتفرقوا مع الأموال في البلاد. وعندما أراد بالخا العودة بمحاربيه الستمائة إلى الجنوب من حيث جاء بقوته، قطع عليه الجيش نفسه الطريق، ولم يبق أمامه إلا أن يمشي باتجاه العاصمة، وهناك كان الإمبراطور بتحصينات كبيرة في انتظاره. وللمرة الأولى في حياته يستسلم بالخا. وعندما أجبره هيلا سيلاسي على دخول معبد يقضي فيه بقية حياته، قال قبل هذه اللحظة الرهيبة: إياك أن تستخف بخصمك (هيلا سيلاسي)، فقد يبدو في خطوة الفأر، ولكنه ينتقم كسبع ضار. إن الأناس شديدي الحذر يأتي مقتلهم من شيء اسمه جدار الضباب، وهو ما فعله سيلاسي مع خصمه، الذي ظن أنه يؤوي إلى ركن شديد، فأمسك به سيلاسي بدون طلقة واحدة.
نافذة:
إن الأناس شديدي الحذر يأتي مقتلهم من شيء اسمه جدار الضباب وهو ما فعله سيلاسي مع خصمه الذي ظن أنه يؤوي إلى ركن شديد فأمسك به سيلاسي بدون طلقة واحدة