يونس جنوحي
ونحن نودع هذا العام، بين من يحصي خسائره ومن يُثمن المكتسبات، يتناسى العالم أننا نركب مركبا واحدا، وأن الغرق لا يختار الضحايا بانتقائية، بل يسحب الجميع نحو القاع.
تبقى نتائج الإحصاء الأخير للسكان أبرز حدث عرفه المغاربة هذا العام. وكالعادة، نُشكك دائما في الأرقام، ونعتقد أننا أكثر مما كشفته مندوبية بنموسى التي غادرها الحليمي قبل إعلان الأرقام بقليل.
قفزت مدينة طنجة، في أقل من عشر سنوات، لتصبح ثاني مدينة من حيث عدد السكان. مليون وربع مليون نسمة يقطنون أقرب نقطة كيلومترية مغربية في اتجاه أوروبا. وبذلك تكون أول مدينة تحقق قفزة سكانية من هذا النوع، ولم تعد تقف أمامها سوى الدار البيضاء، “الغول”، كما يلقبها سكانها أنفسهم.
يشتكي سكان طنجة هذه الأيام من الازدحام المروري الخانق، ويشتكون من الإجراءات الأخيرة التي شملت تعديلات على الإشارات الضوئية. وبدل أن يتنفس سائقو السيارات الصعداء، صاروا يتنفسون كميات إضافية من ثاني أوكسيد الكربون الذي تصدره سياراتهم.
اعتاد سكان الشمال على إيقاع الازدحام المروري أثناء فصل الصيف بحكم الإقبال السياحي المرتفع. لكن الاختناق الحالي، في عز دجنبر، تتحكم فيه أسباب أخرى تقنية، يوجب على المسؤولين في طنجة أن يجدوا له حلا في أقرب وقت.
هناك شكايات كثيرة يضعها المواطنون لدى السلطات المختصة بخصوص البنيات التحتية والإنارة العمومية والنقاط السوداء في قلب المدينة التي صرفت الملايير منذ 2019 لتأهيلها. ومن المؤسف حقا رؤية كيف تراجعت مشاريع لم يمر على إطلاقها أكثر من أربع سنوات فقط، وها هي تبدو كما لو أنها نجت من القصف البرتغالي قبل قرون. بل إن بعض الشركات التي يفوض إليها ترميم بعض البنايات التاريخية، لا تفرق بين هدم جدار يعود للعهد الروماني وبين تعديل رصيف لم يمر على تبليطه أكثر من ثلاثة أشهر.
أصل الداء واضح للغاية. جهل كبير بتاريخ طنجة. مسؤولون لا يرون في المدينة سوى كلتة إسمنتية تتخللها مساحات خضراء، وسكان تزداد أعدادهم كل سنة، وقطار سريع يحمل اسم البراق ينقل الناس في ساعتين من قلب المغرب إلى أقصى شماله. والبقية مجرد روايات على الورق.
والحقيقة أن طنجة واحدة من الأماكن النادرة في العالم التي عاشت في قلب الخصوصية السياسية الدولية، خلال القرن الماضي. حج إليها الناس من كل مكان حرفيا، وجاء إليها الهاربون بثرواتهم من الحروب واستقر فيها مشاهير ودبلوماسيون ورؤساء دول وكتاب وصحافيون وأثرياء.
يشتكي الناس الآن من الازدحام المروري، في حين أن طنجة عندما كانت تعج بالجنسيات الأجنبية، ويتشارك الأمريكيون مع الإسبان والإيطاليين والألمان وقلة من الفرنسيين، في تسيير مجلسها المحلي، لم تشهد أي اختناق مروري رغم أن مساحة المدينة قبل 1956 لم تكن تتجاوز عُشر ما وصلت إليه المدينة من امتداد عقاري اليوم.
حتى أن أحياء طنجة الكبرى حاليا، والتي تأوي عشرات الآلاف من السكان، لم تكن في السابق سوى قرى قريبة من طنجة. والأمثلة في هذا الباب كثيرة. السواني مثلا، أحد أكبر الأحياء من حيث الكثافة السكانية، لم يكن في السابق سوى “فيلاج” خارج المدينة، تفصله عنها هكتارات من الأراضي الفلاحية.
واليوم بعد أن صارت طنجة مدينة مترامية الأطراف وابتلعت في طريقها بوخالف ووصلت إلى گزناية جنوبا، ولم تعد بداية الطريق السيار تبعد عنها سوى بمرمى حجر، ها نحن نرى كيف أن الاختناق المروري يشل أطرافها.
الأمر يشبه أن تصاب سيدة عجوز بتصلب في الشرايين. لا يعقل أن نقول إن سبب تصلب الشرايين، كثرة الأحفاد. العلاج لا يقتضي أن نقتل الأحفاد أو نطردهم بعيدا -هكذا يفكر العنصريون داخل المدينة للأسف، ويفضلون طرد الوافدين على إيجاد الحلول- بل الخضوع لحصص ترويض حتى تتحرك الأطراف دون حدوث التهاب في المفاصل!