السر الأكبر في الحياة (2/2)
الفلسفة الوجودية والعبثية
إن الفلسفة الوجودية رأت في الموت عبثية الحياة، فما فائدة كل زخم الحياة، وروعة عبقرية الإنسان المتألقة؛ إذا كانت نهايته كعشب جاف وحيوان أعجم؟! ويبقى كل تأمل في ظاهرة الموت حسيرا عاجزا، فهناك شيئان لا يمكن التحديق فيهما: الشمس والموت.
لقد عبر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل عن هذا الشعور بكلمات مغموسة بالألم والقنوط فقال: (ولأن تعجز أي حماسة مشبوبة أو بطولة أو أي حدة في التفكير أو الشعور عن الأبقاء على حياة فرد واحد فيما وراء القبر، ولأن يكون الاندثار هو المصير المحتوم لكل عناء الأجيال ولكل التفاني ولكل عبقرية الانسان المتألقة تألق الشمس في رابعة النهار، كل هذه الأمور إن لم تكن حقاً غير قابلة للجدل فإنها مع ذلك تقترب من اليقين إلى حد يستحيل معه على أي فلسفة ترفضه أن يكتب لها البقاء، وعلى ذلك لا يمكن بناء موطن الروح بأمان إلا في إطار هذه الحقائق وعلى أساس راسخ من القنوط المقيم. كتاب العلم في منظوره الجديد ـ سلسلة عالم المعرفة رقم 134 ـ تأليف روبرت أغروس وجورج ستانسيو ـ ترجمة محمد الخلايلي ـ ص 16.
أسباب الخوف من الموت
ولكن لماذا يخاف الانسان من الموت؟ هل هذا الأمر طبيعي وهناك ما يبرره؟ لقد انكب علم النفس على هذه الظاهرة فحصرها في أربع مخاوف رئيسية، وأمكن استخراج أربعة أبعاد مستقلة لقلق الموت هي: 1 ـ الخوف من المجهول 2 ـ الخوف من المعاناة 3 ـ الخوف من الوحدة 4 ـ الخوف من التلاشي الشخصي. واختصر هذه المخاوف الفيلسوف الإسلامي ابن مسكويه في كتابه تهذيب الأعراق وتطهير الأخلاق في فقرة متألقة على النحو التالي:
يعد الموت أعظم غموض وأكبر سر يواجه الإنسان، وبديهي أن يصاب الإنسان حياله بضرب خفي من القلق الممض الذي لا حل له؛ فذكر الفيلسوف (ابن مسكويه): (أن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري ما الموت على الحقيقة؟ أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه، بطلان عدم ودثور، وأن العالم سيبقى موجوداً وليس هو بموجود فيه، أو لأنه يظن أن للموت ألماً عظيماً غير ألم الأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه وكانت سبب حلوله، ولأنه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت، أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء يُقدم بعد الموت، أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال، وهذه كلها ظنون باطلة لا حقيقة لها. أما من جهل الموت ولم يدر ما هو على الحقيقة؛ فإنا نبين له أن الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها وهي الأعضاء التي يسمى مجموعها بدناً، كما يترك الصانع استعمال آلاته، وأن النفس جوهر جسماني وليست عرضاً، وأنها غير قابلة للفساد – قلق الموت ـ سلسلة عالم المعرفة ـ عدد 111 ـ تأليف أحمد عبد الخالق ـ ص 213 ـ منقولة عن كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق.
حديث موسى مع ملك الموت
كراهية الموت هذه وعدم الترحيب بها وصلت إلى درجة أن نبي الله موسى لم يرحب بملك الموت، بل وجه إليه صفعة أطارت عينه، مما جعل ملك الموت يرجع إلى ربه ليقول: أي رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت!! حسناً ماذا يريد إذاً؟ إذا كان يريد المزيد من فسحة العمر فلا بأس ولكن ليس للخلود في هذه الدنيا، فهذه الحياة مركبة على أساس الزوال والتغير والتحلل والفساد. ارجع إليه فقل له ليضع يده على متن ثور فله بكل شعرة سنة ؟!! كان جواب موسى: ثم مه؟ أي ثم ماذا؟ أي ما الذي سيعقب رحلة العمر الطويلة الجديدة هل تحمل الخلود في تضاعيفها؟ أم في النهاية الموت والاندثار؟ كان جواب الملك واضحاً صاعقاً: ثم الموت !! فهو الجبروت الساحق الماحق!! قام موسى بما قام به علماء النفس في تحليل النفس الإنسانية وكيف تمر بخمس مراحل في صراعها تجاه الموت قبل الاستسلام إليه، فاستسلم فأجاب: فالآن.
(الحديث مروي في الصحيحين في كتاب زاد المسلم المصدر السابق ونصه أن ملك الموت عندما زار موسى عليه السلام صكه ففقأ عينه!! فرجع إلى ربه فقال أي رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت؟! فقال ارجع إليه فليضع يده على متن ثور فله بكل شعرة سنة. فقال أي رب ثم مه؟ قال: الموت. قال: فالآن. فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره بجنب الكثيب الأحمر).